مصحفا عثمان

19 يونيو 2018
+ الخط -
منذ بضعة أسابيع، نظم متحف الفن الإسلامي بالدوحة محاضرة مهمة بعنوان (مصير "مصحفين عثمانيين") والتي حاضر فيها الأستاذ الدكتور الروسي يفيم رزفان، نائب مدير متحف كونستكاميرا في سان بطرسبرغ بروسيا، وهو كذلك رئيس تحرير مجلة "المجلة الدولية لأبحاث المخطوطات الشرقية"؛ وله مؤلفات عديدة ومهمة عن القرآن الكريم والمخطوطات الدينية، هذا فضلاً عن منصبه كأستاذ في الفلسفة والاستشراق في جامعة سان بطرسبورغ.

لقد عرض رزفان في محاضرته مصير مخطوطتين لمصحف عثمان، إحداهما بالخط الكوفي، والأخرى بالخط الحجازي. وقد استغرق منه هذا الأمر سنوات من البحث وتتبع أثر ومصير كل منهما، فعدم اكتمال النسخة يترتب عليه البحث والتنقيب عن باقي مخطوطات المصحف والذي من الممكن أن يكون في يد أفراد أو كيانات في بلدان مختلفة.

وهذا هو الحال مثلاً مع مصحف عثمان المكتوب بالخط الحجازي والذي يوجد 40% منه في معهد دراسات الاستشراق في روسيا، والذي تم الحصول عليه في عام 1937 عن طريق سيدة روسية جاءت للمعهد في لينينغراد (سان بطرسبورغ) تعرض بيع ما لديها من مخطوطات، رافضة الإفصاح عن مصدرها وكيف حصلت عليها، وتبين لاحقاً أن جزءاً آخر من هذه المخطوطات موجود في قرية صغيرة جنوب أوزبكستان.


إن تباعد أماكن حفظ تلك المخطوطات الثمينة يدفعنا للسؤال عن حركة انتقالها عبر البلاد والأزمنة. ويدفعنا كذلك للتأمل في أسباب رغبة كل طرف في اقتناء تلك المخطوطات عبر الزمن.

فبالنسبة لمصحف عثمان المكتوب بالخط الكوفي والذي نستطيع أن نرصد انتقاله من مصر حتى بلدان آسيا الوسطى وروسيا، فيبدو أن لكل نقلة من تلك مدلولاتها وأسبابها.

لقد بدأت القصة من مصر في عهد السلطان بيبرس المملوكي والذي كان يربطه تحالف قوي بخان القبيلة الذهبية المغولي بركة خان والذي كان قد دخل في الإسلام. جمعهما عداء مشترك ضد الخان المغولي هولاكو، وكتعبير عن تلك الصداقة والتحالف القوي بينهما، أهدى بيبرس بركة خان في عام 1262 مصحف عثمان المكتوب بالخط الكوفي. هنا لعب المصحف دورا دبلوماسيا مهما كهدية ثمينة مقدسة لحليف مهم.

وقد ظل المصحف في حوزة القبيلة الذهبية إلى أن انتقل مع غزو تيمور خان لكل أراضي آسيا الوسطي وجنوب روسيا والمذابح الشهيرة التي صاحبتها، والتي كان يحاول تغطية بشاعتها بأن يقتني كنوز البلاد التي يدمرها وبالطبع كان على رأس تلك الكنوز مصحف عثمان الذي استحوذ عليه في عام 1391 لكي ينقله إلى عاصمته الجميلة سمرقند؛ ذات القباب الزرقاء والتي جمع فيها كل ما تم نهبه من كل مكان دمره. وهنا يلعب اقتناء المصحف دور آخر يتمثل في امتلاك القوة والهيمنة على أهم المقدسات الدينية الإسلامية.

وتمر السنوات وتضعف قوة الإمبراطورية التيمورية، ويظل المصحف في سمرقند ملك خواجة أخرار، وهي جماعة دينية سياسية لها هيبتها في بلاد ما وراء النهر في القرن الخامس عشر وتظل في مسجدها هناك كمقدس ديني.

إلا أنه وفي عام 1869، وباتساع النفوذ والهيمنة الروسية على البلدان المجاورة في آسيا الوسطى، قام الحاكم العام الروسي لإقليم تركستان كي.بي. فون كوفمان بالاستحواذ على المصحف وتسليمه إلى المكتبة العامة في سان بطرسبورغ بروسيا. هنا تظهر أهمية اقتناء روسيا له كقوة مهيمنة، حتى على المقدّسات!

ولكن مع صعود قوة السوفييت، أهدى لينين المصحف لمسلمي أوزبكستان في طشقند بهدف تبادل المصالح للـ"مشاركة الثورية" وذلك عام 1918، وهنا لعبت المصالح السياسية من جديد دورًا في عملية الانتقال تلك. ويوضع المصحف في خزانة حديدية في لجنة الشؤون الدينية في أوزبكستان.

هنا لم تتنازل روسيا عما في حوذتها من مخطوطات للمصحف، فهناك مصحف عثمان بالخط الحجازي في سان بطرسبورغ. وتعرف روسيا جيداً أهمية امتلاكها هذا المخطوط المهم الذي نسخت منه نسخة مطابقة للأصل مصنعة من الذهب أهدتها في عام 2007 للمملكة العربية السعودية ثم أهدت نسخة أخرى في عام 2015 لإيران في سعيها لصداقة البلدان الإسلامية المجاورة، وفي محاولة للعب دور كدولة يشكل الدين الإسلامي عقيدة ملايين من سكانها، وبالتالي فهي محاولة للعب دور سياسي من منفذ ديني.

لم تتوقف الرغبة في اقتناء المخطوطات على الجانب السياسي والدبلوماسي، فالمخطوطة قد تعطي لمقتنيها دوراً مهماً ثقافياً؛ وهذا ما مثله تسرب 248 لفيفة من مصحف عثمان بالخط الكوفي من سمرقند إلى متحف الفن الإسلامي في الدوحة بقطر.

وهذا كله يوضح أن المخطوط الديني من الممكن أن يلعب أدوارا مختلفة خارج قداسته الدينية على مختلف العصور والأنظمة.