للسياسة حسابات كثيرة، وللخطط العسكرية والمشاريع الطائفية حسابات أكثر، أما لعلي عبد الله صالح، صورة فقط، صورة جثة وبطانية متّسخة وأيدٍ مرتجفة تحاول نقل الجثة من مكان إلى مكان آخر. هذا كل ما بقي من سنوات الطغيان والفساد.
علي عبد الله صالح طاغية. هي حقيقة علمية غير قابلة للشكّ. علي عبد الله صالح طاغية، حتى لو كان قاتلوه مجرمين طائفيين. وعلي عبد الله صالح طاغية. حتى لو ارتفعت أصوات في بعض مواقع التواصل، يوم أمس، مرددة: "شهيدٌ شهيد".
علي عبد الله صالح طاغية. وللطغاة صورة ختامية تشبه تاريخهم الدموي. بدت صورة الرئيس المخلوع على قسوتها ودمويتها وتكريسها منطق الانتقام القبلي البشع والوحشي، نتيجة حتمية لتلك التقلبات والتحالفات والخصامات التي رافقته منذ عام 1978.
الصورة إذاً ثابتة لا تتغيّر، والأكيد أنها لن تتغيّر. هي المشهد الأخير من الحياة المثيرة للرجل الأسمر، صاحب النبرة العالية والقبضة التي تعلو وتنخفض دون توقف عند الكلام. الصورة المتحركة، ثبتت، والرجل الذي تنقل، وهرب، وصارع، وقاتل وقتل، بات بلا نفس، ولا حركة. هي الصورة التي قد تختصر كل تعقيدات اليمن اليوم.
لكنّ جثة علي عبد الله صالح والهتافات حولها، في الفيديو اليتيم الذي نقل الحدث، ليست حدثاً وحدها. هي استكمال لسلسلة بائسة حول نهاية الدكتاتوريين، في العالم العربي تحديداً. تستكمل الصورة، ألبوماً فيه صورة صدّام حسين. صورتان في الحقيقة لصدام حسين: الأولى وهو مختبئ في حفرة بشعره المتسخ ووجه فقد كل ملامح القسوة الدموية، والثانية للجسد المربوط بحبل مشنقة، بلا نفس ولا حركة. ثمّ تأتي الصورة الأخرى لمعمّر القذافي. فيوم أمس وللوهلة الأولى، بدا صالح ــ الجثة شبيهاً بمعمّر القذافي ــ الجثة هو أيضاً. شبه يصل حدّ التماهي ثم الالتحام. وأخيراً صور علي عبد الله صالح.
وبين هذه الصور، في صفحات هامشية وأقلّ دموية، تأتي صورة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، بملابسه البيضاء، عجوزاً، لكن حراً. ثمّ صورة زين العابدين بن علي، وهي ربما أفضل الصور في الألبوم نفسه. ليس لبن علي المهزوم وجه واضح، بل صوت لرجل يركض في الشارع ويهتف "بن علي هرب، بن علي هرب".
هذا المشهد من الخارج، أما داخل تفاصيل الصور، فتعقيدات كثيرة، أبعد من الجثث، وأحبال المشنقة. وهي التفاصيل التي ترسم كل ما يأتي بعد لحظة التقاط صورة الجثة. صدام حسين، الذي كان دكتاتوراً قتل صبيحة عيد الأضحى. الصورة تخرج من سياقها الطبيعي، لتأخذ أبعاداً أخرى حوّلته إلى واحد من أبطال العراق، بطل حتى وهو جثة هامدة. السيناريو نفسه يوشك أن يتكرّر. صورة علي عبدالله صالح في لحظة انقلابه على الحوثيين، في لحظة ما قيل إنها "الصحوة العربية" في مواجهة "السيطرة الإيرانية" لن تختفي قريباً. أصوات التعاطف مع الرئيس اليمني المخلوع بدأت تعلو اليوم. هو ضحية. وفي سياق أكثر موضوعية، يبدو أن صالح ضحية فعلاً. ضحية غياب نظام العدالة في اليمن (والعالم العربي عموماً) وغياب إمكانية محاسبة القاتل والمجرم والفاسد. على عبد الله صالح طاغية. ومصير الطغاة محاكمات عادلة حقيقية، تدينهم وتحاسبهم... وكل ما يأتي خارج هذا السياق يكرّس صورة الطاغية، كضحية، أو في رواية أكثر تشاؤماً، كبطلٍ.
في روايته "يوم قتل الزعيم" يكتب الروائي المصري الراحل، نجيب محفوظ، "الموت أنقذه من الجنون. على أي حال كان يجب أن يذهب. هذا جزاء من يتصوّر أن البلد جثّة هامدة. بل هي مؤامرة خارجية. لا يستحق هذه النهاية. إنها نهاية محتومة. كان لعنة. من قتل يقتل ولو بعد حين". "الموت أنقذه من الجنون"، قد تبدو هذه العبارة تحديداً، أكثر ما يفسّر صورة الجثة الملفوفة بالبطانية.