24 أكتوبر 2024
مشهد حزبي مكتظ في تونس
يتزايد تشكيل الأحزاب في تونس منذ نجاح الثورة في إرساء مشهد سياسي تعدّدي، يمنح أحقية الظهور والطموح لبلوغ الحكم لكل القوى، غير أن حالة الإسهال الحزبي المضاعف تطرح مشكلاتٍ في فهم طبيعة توجهات هذه القوى، أو تمييز برامجها وتحديد تطلعاتها وإمكاناتها.
وبعيدا عن منطق الشعارات والوعود المبالغ فيها، فإن وجود أكثر من 215 تشكيلا حزبيا معترفا به، في بلدٍ سكانه 12 مليوناً، قد يعبر عن أزمةٍ من نوع ما. وإذا كان من الممكن تفهّم حالة التزايد السريع في عدد الأحزاب بعد الثورة مباشرة باعتباره ردة فعل طبيعية على الحالة السُكونية، التي كانت تحكم المشهد السياسي، في ظل نظام الاستبداد الذي كان سائدا، فإن من الصعب تفهّم ظهور كيانات حزبية جديدة بعد أكثر من ست سنوات على الثورة، وكأنما الأحزاب الموجودة لم تستنفد غالبية الأفكار والتوجهات والبرامج الممكنة في العمل السياسي. ومن هذا المنطلق، فإن مقاربة ظهور تشكيلات حزبية جديدة، آخرها حزب البديل التونسي، يطرح أكثر من إشكالٍ بشأن المبرّرات والأهداف، وما الذي يمكن أن تحققه هذه القوى حديثة الظهور؟
يمكن القول إن غالبية القوى السياسية الكبرى في تونس هي امتداد مباشر، أو غير مباشر، لكيانات قديمة، فحزب النهضة أو حزب حراك تونس الإرادة أو الأحزاب اليسارية، هي تشكيلات حزبية، كانت تنشط خارج الاعتراف الرسمي قبل الثورة، والأحزاب المرتبطة بالنظام القديم في أصلها شظايا الحزب الحاكم السابق (التجمع الدستوري الديمقراطي) الذي وقع حله، لينتشر أتباعه في أحزابٍ مختلفة، بما فيها "نداء تونس" الحاكم اليوم. وتبقى الأحزاب الناشئة حديثا، ومنها "تونس البديل"، وقبلها "مشروع تونس" أو "آفاق تونس" وغيرها، هي تعبير عن طموحات شخصية لمؤسسيها، ذلك أن القاسم المشترك بينها أن غالبية قياداتها وزراء سابقون، أو ممن فقدوا تأثيرهم في الأحزاب التي كانوا ضمنها سابقا، ما يعني ضمنا أن تأسيسها لا يتعلق بوجود برامج جديدة، أو تعبير عن توجهات مجتمعية، دعك من أن تكون امتدادا لقراءات أيديولوجية، فهي تقوم أساسا على رغبة من يقودها في العودة إلى كرسي الحكم وعبر الصناديق.
وإذا كان المشهد الديمقراطي التونسي قادراً على استيعاب كل التوجهات والأحزاب، إلا أن كراسي الحكم لا تحتمل حضور إلا من هم أكثر قوةً وتنظيما وتأثيرا، وفي ظل غياب برامج فعلية للأحزاب الحالية، الناشئة منها وحتى القديمة، فإن المشكل سيظل على حاله، بمعنى أن أي حزبٍ صاعد لن يقدر على تغيير المشهد كليا، مهما كانت الإمكانات التي ينطلق منها أو الاستعدادات التي يوحي بتوفرها لديه، فليس بالشعارات وحدها تُدار الدول، ويتحقق الرقيّ الاقتصادي والاجتماعي.
وبالنظر إلى القانون الانتخابي التونسي، القائم على صيغةٍ أقرب إلى النسبية المطلقة، من الصعب أن يتمكّن حزبٌ ما من الحكم بمفرده، وإنما سيكون خاضعا لمنطق الحسابات والتحالفات والتوافقات، بالإضافة إلى مراعاة القوى المجتمعية المؤثرة التي لا تحضر انتخابيا، لكنها تؤثر واقعيا، ونعني بها الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة (منظمة الأعراف). وعلى هذا الأساس، فإن الطامحين الجدد للحكم لا يتحرّكون ضمن الفراغ، وإنما داخل مجال حزبي مكتظ بالقوى والأحزاب والشخصيات والمنظمات. وفي غياب بدائل فعلية، وشخصيات حزبية كاريزمية، سيظل ما يقدمه الوافدون الجدد/ القدامى مجرّد محاولة لافتكاك جزءٍ من المشهد قد يحقق لهم حضورا، لكنه لن يشكل تغييرا فعليا للساحة السياسية، مهما كانت المفترضات السياسية التي ينطلقون منها.
ويخطئ المسؤول، الذي كان يتولى منصبا وزاريا، التقدير إذا تصوّر أن مجرد توليه السابق منصباً حكومياً، يجعله الأقدر على إدارة البلاد، ذلك أن بعض من تولوا الحكم لا يذكر لهم الناس شيئا من الإنجازات، أو من البرامج التي يمكن أن يستثمرها مستقبلا، للتأثير على الناخبين. ومن هنا، فإن المشهد السياسي التونسي بعد انتخابات 2019 سيظل، على الأرجح، أقرب ما يكون على ما هو عليه اليوم مع صعود قوى صغيرة جزئيا، وانهيار أقل لقوى كبرى، استفادت من وضعية محددة سابقا، ونعني هنا حزب نداء تونس خصوصا.
وبغض النظر عن حسابات الأحزاب، ومدى تداخل المشهد السياسي الحالي، تظلّ كل هذه الأمور نتاجا طبيعيا لحالة الانتقال الديمقراطي، وإذا كان لكل ديمقراطيةٍ نقائصها، بل وأخطاؤها أحيانا، فإنها تبقى، في النهاية، أفضل من خطايا الأنظمة الاستبدادية المغلقة وجرائمها، حيث يكون العمل السياسي ترفا يستمتع به الحاكم وحاشيته، وليس شأنا عاما يحدّد مصيره جمهور الناخبين، بتوجهاتهم ورؤاهم المختلفة. وهذا التعدّد هو ما يمثل الإنجاز الفعلي للثورة التونسية، على الرغم من بعض الارتكاسات والنكوص الجزئي وفوضى الأحزاب، إلا أن المشهد، في النهاية، سيسير نحو تنظيم نفسه ذاتيا، ما لم يعترضه عائق، وذاك جوهر التطور الطبيعي للعمل السياسي في الدول التي تعيد بناء ذاتها، بعد عقودٍ من الاستبداد والانغلاق.
وبعيدا عن منطق الشعارات والوعود المبالغ فيها، فإن وجود أكثر من 215 تشكيلا حزبيا معترفا به، في بلدٍ سكانه 12 مليوناً، قد يعبر عن أزمةٍ من نوع ما. وإذا كان من الممكن تفهّم حالة التزايد السريع في عدد الأحزاب بعد الثورة مباشرة باعتباره ردة فعل طبيعية على الحالة السُكونية، التي كانت تحكم المشهد السياسي، في ظل نظام الاستبداد الذي كان سائدا، فإن من الصعب تفهّم ظهور كيانات حزبية جديدة بعد أكثر من ست سنوات على الثورة، وكأنما الأحزاب الموجودة لم تستنفد غالبية الأفكار والتوجهات والبرامج الممكنة في العمل السياسي. ومن هذا المنطلق، فإن مقاربة ظهور تشكيلات حزبية جديدة، آخرها حزب البديل التونسي، يطرح أكثر من إشكالٍ بشأن المبرّرات والأهداف، وما الذي يمكن أن تحققه هذه القوى حديثة الظهور؟
يمكن القول إن غالبية القوى السياسية الكبرى في تونس هي امتداد مباشر، أو غير مباشر، لكيانات قديمة، فحزب النهضة أو حزب حراك تونس الإرادة أو الأحزاب اليسارية، هي تشكيلات حزبية، كانت تنشط خارج الاعتراف الرسمي قبل الثورة، والأحزاب المرتبطة بالنظام القديم في أصلها شظايا الحزب الحاكم السابق (التجمع الدستوري الديمقراطي) الذي وقع حله، لينتشر أتباعه في أحزابٍ مختلفة، بما فيها "نداء تونس" الحاكم اليوم. وتبقى الأحزاب الناشئة حديثا، ومنها "تونس البديل"، وقبلها "مشروع تونس" أو "آفاق تونس" وغيرها، هي تعبير عن طموحات شخصية لمؤسسيها، ذلك أن القاسم المشترك بينها أن غالبية قياداتها وزراء سابقون، أو ممن فقدوا تأثيرهم في الأحزاب التي كانوا ضمنها سابقا، ما يعني ضمنا أن تأسيسها لا يتعلق بوجود برامج جديدة، أو تعبير عن توجهات مجتمعية، دعك من أن تكون امتدادا لقراءات أيديولوجية، فهي تقوم أساسا على رغبة من يقودها في العودة إلى كرسي الحكم وعبر الصناديق.
وإذا كان المشهد الديمقراطي التونسي قادراً على استيعاب كل التوجهات والأحزاب، إلا أن كراسي الحكم لا تحتمل حضور إلا من هم أكثر قوةً وتنظيما وتأثيرا، وفي ظل غياب برامج فعلية للأحزاب الحالية، الناشئة منها وحتى القديمة، فإن المشكل سيظل على حاله، بمعنى أن أي حزبٍ صاعد لن يقدر على تغيير المشهد كليا، مهما كانت الإمكانات التي ينطلق منها أو الاستعدادات التي يوحي بتوفرها لديه، فليس بالشعارات وحدها تُدار الدول، ويتحقق الرقيّ الاقتصادي والاجتماعي.
وبالنظر إلى القانون الانتخابي التونسي، القائم على صيغةٍ أقرب إلى النسبية المطلقة، من الصعب أن يتمكّن حزبٌ ما من الحكم بمفرده، وإنما سيكون خاضعا لمنطق الحسابات والتحالفات والتوافقات، بالإضافة إلى مراعاة القوى المجتمعية المؤثرة التي لا تحضر انتخابيا، لكنها تؤثر واقعيا، ونعني بها الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة (منظمة الأعراف). وعلى هذا الأساس، فإن الطامحين الجدد للحكم لا يتحرّكون ضمن الفراغ، وإنما داخل مجال حزبي مكتظ بالقوى والأحزاب والشخصيات والمنظمات. وفي غياب بدائل فعلية، وشخصيات حزبية كاريزمية، سيظل ما يقدمه الوافدون الجدد/ القدامى مجرّد محاولة لافتكاك جزءٍ من المشهد قد يحقق لهم حضورا، لكنه لن يشكل تغييرا فعليا للساحة السياسية، مهما كانت المفترضات السياسية التي ينطلقون منها.
ويخطئ المسؤول، الذي كان يتولى منصبا وزاريا، التقدير إذا تصوّر أن مجرد توليه السابق منصباً حكومياً، يجعله الأقدر على إدارة البلاد، ذلك أن بعض من تولوا الحكم لا يذكر لهم الناس شيئا من الإنجازات، أو من البرامج التي يمكن أن يستثمرها مستقبلا، للتأثير على الناخبين. ومن هنا، فإن المشهد السياسي التونسي بعد انتخابات 2019 سيظل، على الأرجح، أقرب ما يكون على ما هو عليه اليوم مع صعود قوى صغيرة جزئيا، وانهيار أقل لقوى كبرى، استفادت من وضعية محددة سابقا، ونعني هنا حزب نداء تونس خصوصا.
وبغض النظر عن حسابات الأحزاب، ومدى تداخل المشهد السياسي الحالي، تظلّ كل هذه الأمور نتاجا طبيعيا لحالة الانتقال الديمقراطي، وإذا كان لكل ديمقراطيةٍ نقائصها، بل وأخطاؤها أحيانا، فإنها تبقى، في النهاية، أفضل من خطايا الأنظمة الاستبدادية المغلقة وجرائمها، حيث يكون العمل السياسي ترفا يستمتع به الحاكم وحاشيته، وليس شأنا عاما يحدّد مصيره جمهور الناخبين، بتوجهاتهم ورؤاهم المختلفة. وهذا التعدّد هو ما يمثل الإنجاز الفعلي للثورة التونسية، على الرغم من بعض الارتكاسات والنكوص الجزئي وفوضى الأحزاب، إلا أن المشهد، في النهاية، سيسير نحو تنظيم نفسه ذاتيا، ما لم يعترضه عائق، وذاك جوهر التطور الطبيعي للعمل السياسي في الدول التي تعيد بناء ذاتها، بعد عقودٍ من الاستبداد والانغلاق.