مشكلة المحافظ العربي

31 يوليو 2018
+ الخط -
بعد تصريحات الكاتبة والناشطة المصرية النسويّة، نوال السعداوي، على قناة بي بي سي أخيرا، والتي كرّرت فيها تأييدها نظام عبد الفتاح السيسي، ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي ردود فعلٍ تستخدم تأييد السعداوي الظلمَ والقمعَ لتكرار الفكرة المعروفة عند المُحافظ العربي المُتطرّف التي تنظر إلى النساء بدونيّة وتمييز.
وليس رد الفعل هذا جديدًا أو خاصًا بالمُحافظين، بل هو تكتيك يتبعه كل أعداء القضايا العادلة في العموم: استخدام انحطاط مواقف شخصيّة لتبرير انحطاط عام، لكن مجمل ردود الفعل وخطابها يفرض علينا تعيين بعض مميزات المحافظ العربي، ومناقشة طُرَقَ تفكيره. والحديث هنا عن المُحافظ العربي المتطرّف تحديدًا؛ فالمحافظة درجات وتيارات مختلفة الشدّة والتكوين. وهنا علينا أن نذكر سريعًا خصوم المحافظين، الليبراليين واليساريين، والذين يقدّمون صورة مضللة عن المحافظة، باعتبارها دومًا نزعة غير عقلانية ومتخلفة. هذا غير صحيح، وبعض كبار العقول في العصر الحديث كانوا من المحافظين، وبعض أنجح السياسيين ورجال الاقتصاد أيضًا كانوا من المحافظين، كما أن المُحافظة يمكن بناؤها على أساس من الحجة والمنطق القوي، في حال توفرت مجموعة من الشروط، وبالتالي فما يقوله بعض الليبراليين واليساريين عن المُحافظة ليس أكثر من ردّ فعلٍ منفلت الأعصاب على النزعة المحافظة المتطرّفة المنتشرة عربيًا. وبالإضافة إلى ذلك، خصوم المحافظين العرب ليسوا دومًا غير محافظين، ومن دعاة التحرّر الاجتماعي الجذري، بل هم أحيانًا محافظون معتدلون، يجعلهم جنون وتطرّف قطاعٍ من المحافظين يظهرون كأنهم دعاة تحرّر راديكالي.

أولى مميزات المحافظ العربي عن نظيره الأميركي مثلًا أن موقفه الفكري والأخلاقي ضعيف، وهو يدرك ذلك؛ فعدم التسليم بحقوق النساء مثلًا في السفر أو العمل والإصرار الصريح على وقوعها في مرتبة أقل من الذكور (الأب/ الأخ/ الزوج) لم يعد يبدو مقبولا، لا عند قطاع واسع من الجيل الشاب، ولا بالقياس إلى تاريخ الحراك الحقوقي والسياسي العربي، ولا حتى بالقياس إلى التيّارات المحافظة القويّة في دول العالم الأخرى. وبسبب ضعف الموقف، لا تجد لهذا التيار من المحافظين العرب مثقفين ومنظّرين كبارا، بل غالبًا رجال دين و "دُعاة"، لأنهم يستقوون بتأويل نصوص دينيّة، وليس برجاحة العقل والحُجّة، أو حتى بقوة اللغة والخطاب، وهذا هو سِرّ ارتكان المُحافظ العربي إلى الخطاب الديني كُلّيا؛ فلا علاقة للمسألة بالإيمان أو بالتديُّن في المقام الأول، بل بالإمكانات المحدودة التي يفرضها ضعف الموقف الرجعي المتطرّف.
وإذا كان موقف المحافظ عندنا ضعيفًا، فإن ميزته الثانية أن "موقعه" قويٌ ومتجبّر، وذلك لأن البيروقراطيّة (مُلئت بالمحافظين في فترة العداء للشيوعيّة)، وقيادات الدولة العربيّة، القادمة غالبًا من معاقل المحافظة الجهويّة والمؤسساتيّة (الريف - الجيش)، والنظام القانوني والتشريعات، والدولة التي ريّفت المدينة، كلها تقف معه في الأصل، كما أن سياسات النظام العربيّ، منذ السبعينيّات، قوّت التيّارات الإسلاميّة المحافظة بأنواعها، واستطاعت الأخيرة بجهد كبير، ومساعدات أكبر، تَسييْد الخطاب المحافظ اجتماعيًا (والتسييد غير التجذير) وبناء مؤسسات له، وبالتالي فالمُحافظ العربي يتمتع ببيئةٍ تسانده حتى النهاية، وبشكل موضوعي أحيانًا؛ فثمّة مثلًا محافظون مصريون كثيرون يقفون مع النظام في تنكيله بجماعة الإخوان المسلمين، والأخيرة، للمفارقة، من أهم التشكيلات التي سيّدت المُحافظة، وقوّت الموقع العام للمحافظين في العالم العربي! ولا يُنسى هنا عامل مساعد، وهو الهوس الاستشراقي عند المنظمات والأنظمة الغربيّة بخصوص حقوق الإنسان في العالم العربي، وهو هوسٌ له غالبًا، إلى جانب طابعه المَرَضي والعنصري، أغراض إمبريالية مختلفة، لا مجال هنا لنقاشها، ولكن المهم، في هذا الصدد، أن هذا السلوك الغربي هو أحد العوامل التي تجعل المحافظة المتطرّفة تبدو معادلًا للنزعة الوطنيّة، وتجعل المُحافظ يبدو أمام نفسه أكثر وطنيّةً من الآخرين، ومن هنا يتوثّق التحالف بينه وبين النظام العربي الذي يرتكب الفظائع باسم الوطنيّة.
الميزة الثالثة الناتجة عما سبق والفاعلة فيه أن المُحافظ العربي غير ديمقراطي، وقَمعي بالضرورة؛ فهو ليس في دولةٍ تحكمها مبادئ الديمقراطيّة، وهو أيضًا لا يُكيّف أفكاره حتى تصبح قابلةً لأن يُدافع عنها بالحُجّة، كما أن الدولة معه، ويراه النظام العربي قاعدته الاجتماعيّة الصلبة، بل ويُخطَب ودّه (بالخطاب الرسمي والتشريعات) في معركة النظام مع الإسلاميين. وعليه، لا حاجة بالمُحافظ إلى الحُجّة والنقاش؛ فهو يذهب مباشرةً إلى العنف اللفظي، وأحيانا الجسدي، والمحاكم وأقسام الشرطة، لكي يسجن الآخرين، وينكّل بهم ويمنع ما لا يعجبه (كتب، روايات، أفلام... إلخ).
تتمظهر هذه الميزات الثلاث للمُحافظ، بعد ذلك، قسماتٍ عامّة في خطابه، خصوصًا في قضيّة 
حقوق النساء، مثل مستوى الذكاء المتدني للخطاب. ومن النادر للغاية أن تجد مُحافظًا عربيًا ذا خطابٍ خبيث الحجج، أو حاذقًا في التلاعب بالكلمات، أو علمويًا يكثر من الاستناد الانتقائي لدراساتٍ وأبحاثٍ علميّة (رصينة وغير رصينة) لكي تبدو مواقفه "حقائق"، كما يفعل محافظون آخرون، مثل الإعلامي بِن شابيرو في الولايات المتحدة الأميركية (وهو بذيء) وجوردَن بيترسون في كندا، فحُجّة المُحافظ العربي بخصوص حقوق النساء اليوم هي نفسها التي كانت قبل أربعين عامًا، وثمّة أمثلة كثيرة عن المهازل التي تنفجر بمجرّد أن يحاول رموز المحافظة العربيّة دعم موقفهم بالحجة العلميّة، وذلك ليس فقط لأن بعضهم رجال دين/ دعاة يرون في تأويل النص الديني الورقة الأقوى، ويعرفون القليل (أو لا يعرفون شيئًا) عن العلوم الحديثة عامة، والإنسانية والاجتماعيّة منها خصوصا، ويستهترون بها، وبالجمهور العربي، بل وأيضًا لأن مواقفهم متطرّفة إلى درجةٍ يصعب معها انتقاء أبحاث علمية أو اجتهادات فلسفيّة لمساندتها.
ربما كان خليط ضعف الموقف وقوّة الموقع أحد العوامل التي تدفع محافظين كثيرين، عند النقاش، في الشارع ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، نحو ممارساتٍ تتناقض مع دعواته الأخلاقيّة: البذاءة المفرطة، والتهديد، والسلوك العُصابي إزاء أي مظهر أو موقف غير محافظ، وهذا السلوك الأخير سبب مشكلات (وجرائم) كثيرة على مستويات عدة، بشكل غير مباشر، ومنها تشكيل جزءٍ من النخبة الثقافيّة، وكلنا يعرف أسماء كُتّاب وفنانين عرب متوسطي الموهبة والقدرات لم يفرضهم علينا نجوما وعباقرة إلا عُصاب المحافظين.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.