مشط جدّتي

04 اغسطس 2017
+ الخط -
تتابع أمي، منذ عامين، ما يحدث في الموصل، وتخبرني أنها لم ترَ بعد مدينتها. كانت تبحث في الصور المتلفزة عن ماضيها وتنتظر، حتى أخبرتني أخيراً أنها رأت حارتها، بيت جدها تحديداً، حيث أمضت طفولتها تلعب وأختها أمام البيت. كان هذا اليوم بالنسبة لها بمثابة شهادة، تؤكد أنها لن تتمكن من الدخول إلى هذا البيت مرة أخرى. أعاد حديثها مخاوفي من الموت بعيداً.
ليس لدي مخاوف من الموت فعلياً، أخشى فقط من مشهد الموت بعيداً عن البيت، موت من أحب أو موتي أنا.
كانت أول مرة سمعت عن الموت حين توفي جدي لأمي، غير أنه توفي وأنا صغيرة جداً، وبالكاد أذكر أن تلك "الحادثة" كانت المناسبة الأولى التي زرت فيها العراق مع والدتي. كانت تلك أيضاً زيارتنا الأخيرة، بعدها بقليل بدأت الحرب، وانقطعت العلاقات السورية العراقية. ختم على جواز السفر: كل الدول ما عدا العراق.
لم تزر أمي قبر والدها بعد لحظة الدفن. أما بالنسبة لي، فقد تحوّل الجد إلى حكايات ترويها لي عنه. أمي تكرّر الحكايات نفسها، فيصبح جدي شخصية حكائية أكثر وأكثر. التكرار يحول الحكايات إلى طقس ربما، وربما هي تزوره من خلال رواياتها تلك. وربما أنّ عدم زيارتها قبر والدها ليس موضوعاً ذا أهمية كبيرة، وأنّها تكتفي منه بما تتذكر.. كيف لي أن أعرف وأنا لم أجرؤ مرة على سؤالها: كيف تتواصل مع والدها؟ و كيف تعافت من حزنها عليه؟
بعد سنوات، في بيتنا في دمشق. سمعت والدي يدخل المنزل، ويجلس إلى طاولة السفرة، انتبهت إلى الصمت الذي حلّ فجأة في البيت، فرحت أتلصص على المشهد بفضول الطفلة، سمعت الصوت المكسور. كانت أمي تجلس إلى جانبه، وهو يخبرها عن وفاة صديقه المقرب.
كانت أول مرة أسمع فيها حديثاً عن الموت في منزلنا. كنت في الثامنة من العمر. فهمت حينها أنّ الموت أمر غريب ومحزن للآباء، نتحدث عنه بعيدا عن الأولاد، بصوت واطئ.
حين توفيت ليلى جدتي لأبي، لم أشعر بأي شيء. لم تربطني بها أي علاقة خاصة، لا أذكر لجدتي أي دور في حياتي. حين كانت تأتي إلى منزلنا، لم تكن تتصرف كالجدات، فلا ألعاب ولا مزاح ولا هدايا ولا حكايات. حين توفيت بدا كأن موتها حدث بعيدا عني. وأنه حدث أصاب الآخرين فقط.
كانت جدتي لأمي نعيمة على العكس تماماً. كانت تقيم في الكويت، فلا تأتي إلا لقضاء الإجازة الصيفية معنا في كلّ سنة. كلّ زيارة كانت عيداً تغمرنا فيه بالحب والهدايا. هدايا يعرف قيمتها الحقيقية من قضى طفولته في الثمانينات، حين كان البلد يعيش حصاراً اقتصادياً خانقاً، ولا يتوفر على كثير من ضرورات العيش.
كانت نهاية إجازتها بمثابة كارثة بالنسبة لي. أعلن الحزن كأنه معركة للتمسك بها والمطالبة بعودتها، أمرض؛ أرفض تناول الطعام، وأبقى أياماً بكاملها وأنا أمسك المشط الخاص بها، المشط الذي كانت تستخدمه لتسرح لي شعري. كان مشطا جميلا مصنوعا من العضم. كانت تقول لي أنّ شعري سيطول خلال العام وسأحتاج دائماً إلى مشط خاص. كنت أشعر أنها تتعمّد نسيان مشطها لكي يتبقى لي شيء منها حتى عودتها في الصيف القادم.
جدتي لا تزال على قيد الحياة، عادت لتعيش في سورية خلال حرب الخليج، وعشنا معا قرابة خمسة عشرة سنة، قبل أن تفرقنا حرب أخرى من جديد.
منذ ست سنوات، وأنا لا أفكر بشيء سوى الموت، أكرّر لا أخافه. ولا أعرف ما الذي يعنيه الفقدان بالموت، أفكر فقط بالصيف القادم حين يعود الجميع، بأن المسافة التي تفصلنا عن اللقاء هي مسافة غياب قصير، ومشط جدتي يفي بالغرض، مشط لكل من نحب، غرض سحري نتمسك به فلا نموت غرباء.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)