24 أكتوبر 2024
مشروع وطني فلسطيني جديد أو نكبة جديدة
التناقض الكبير الذي عاشته وتعيشه التجربة الفلسطينية المعاصرة هو التناقض بين الأساس المكون للصراع الذي أسفر عن عملية الاقتلاع والطرد الجماعي للفلسطينيين من وطنهم، ومنعهم من العودة إلى منازلهم، وبناء إسرائيل على أنقاض وطنهم، وبين محاولة بناء الحل بين الطرفين (إسرائيل والفلسطينيين) على عوارض الصراع، أي على معطيات احتلال عام 1967 ونتائجه، وليس على مكونه الأساسي. بمعنى آخر، إذا كانت نتيجة الصراع في 1948 هي الأساس المكون للصراع، فلا يمكن حله على أساس نتائج حرب 1967 وحدها.
لا يفسر هذا التناقض أزمة عدم الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية فحسب، بل ويفسر المأزق الفلسطيني التاريخي الذي دخلته التجربة الفلسطينية مع دخولها المفاوضات السياسية مع إسرائيل على أساس نتائج حرب عام 1967. كما يمكن القول إنّ الوطنية الفلسطينية الحديثة وُلدت ردّا على محاولة الإلغاء التي تعرّض لها الفلسطينيون بعد 1948، وبالتالي، أصبحت النكبة جزءاً مكوّناً من الهوية الوطنية الفلسطينية التي ساهم الشتات الفلسطيني في بنائها، على الرغم من امتداد هذا الشتات مكاناً وزماناً، وهو ما شكّل خصوصية هذه الهوية، وتكوينها المركب، بوصفها رداً على حالة الشتات والاقتلاع. وبحكم افتقاد الفلسطينيين وطنهم، تطابق الوطن مع منظمة التحرير بوصفها الوطن المعنوي لهم، فتشكيلها يعود تاريخياً إلى ما قبل حرب 1967، حتى لو كانت سيطرة الفصائل المسلحة عليها بعد هذا التاريخ، لكن أغلبية هذه التكوينات كانت موجودة قبل تلك الحرب، وكانت تسعى إلى الرد على النكبة التي ألغت الوطن الفلسطيني.
إذا كان الفلسطينيون قد وجدوا في منظمة التحرير وطنهم المؤقت البديل، وإذا لم تكن للمنظمة
جغرافيا سياسية لتبني عليها كيانها، فإنها كانت وجوداً سياسياً للفلسطينيين، أي وجودا على الخريطة السياسية، على الرغم من عدم امتلاك جغرافيا على أرض الوطن المحتل. بذلك، امتلك الفلسطينيون مشروعهم الوطني الذي سعوا ويسعون إلى تحويله إلى واقع جغرافي لاستعادة حقوقهم الوطنية. شكّل هذا المشروع الوطني القاسم المشترك (اللاصق الوطني) بين التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، خصوصا أن جزءاً من هذا الشتات استمر في العيش على ما تبقى من الأرض الفلسطينية التي بقيت في أيدي العرب، قصدت المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (ظاهرة غريبة، لاجئون في وطنهم!).
بدل أن تعمل النكبة على دفع اللاجئين الفلسطينيين إلى الدخول في مجتمعاتٍ أخرى تحجب هزيمتهم، أدمجوا هزيمتهم، وحوّلوها إلى واحدٍ من مكونات هويتهم التي استعادوا من خلالها، بعد عقدين من الهزيمة، وجودهم السياسي (منظمة التحرير) الذي يطالب بحقوقهم المشروعة في وطنهم. ولم يكن الحفاظ على الهوية وحده الفاعل الأساسي في تكوين ما يمكن تسميتها "الوطنية الفلسطينية الحديثة"، فقد كانت إقامة دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني عاملاً رئيسياً في تكوين هذه الوطنية، وكان وجود العدو مجسّداً في دولةٍ عدوانيةٍ، وفّرت حالة إجماع عند الفلسطينيين على معاداة هذا "الكيان" الذي اغتصب أرضهم وحقوقهم، وإدماجه في إيجاد نوع من الوحدة الفلسطينية. ولكن الحفاظ على الهوية وتوحيد إسرائيل، المقامة حديثاً لمشاعر الفلسطينيين، لم تجعل الوضع طبيعياً، فقد كانت التجربة الفلسطينية تُخاض في شروط خاصة واستثنائية. وعلى الرغم من القدرة الفلسطينية على إعادة إنتاج الذات الوطنية، فإن التجربة الفلسطينية لم تنج من التشوهات التي أصابت التكوين الفلسطيني، بحكم هذه الظروف التي عاشها باعتبارها تجربة مترامية في الجغرافيا، مرحلة كفاح عسيرة سنوات طويلة من خارج الوطن. وما تم إنجازه في أصعب الظروف الفلسطينية تهدّد، مع دخول التجربة الفلسطينية مرحلة التفاوض مع إسرائيل، ففي الشروط التي وضعت لهذه المفاوضات، تم استبعاد الأساس المكون للقضية الفلسطينية، اللاجئين بوصفهم التجسيد الحي للنكبة المستمرة، فشروط الحل، بوصفه يقوم على أساس معالجة احتلال عام 1967، أخرجت عملياً الأساس المكوّن للقضية من دائرة البحث، ووضعها قضية مؤجلة إلى مفاوضات الوضع النهائي التي لم تأتِ. أحبط هذا الوضع اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، والذين اعتبروا أنهم باتوا فعلياً
خارج المفاوضات، وأن قيادة منظمة التحرير (وطنهم المعنوي) قد غدرت بهم، وتخلت عنهم.
بدخول المفاوضات، بالشروط السياسية التي فرضت على المنظمة، لم يتم التلاعب بقضية اللاجئين فحسب، بل أدخلت هذه المفاوضات المشروع الوطني والهوية الفلسطينيين في حالةٍ من التفكك أيضاً، استمر في إيجاد حالة من التردّي الفلسطيني، وصولاً إلى الانقسام والاقتتال الدموي الذي وضع جزءاً من الوطن الفلسطيني في مواجهة الجزء الآخر، الضفة الغربية في مواجهة قطاع غزة، وما تزال هذه المواجهة مستمرة، بعد أكثر من عقد على انفجار الصراع الفلسطيني الداخلي.
تقول معطيات الوضع الفلسطيني إننا اليوم أمام نكبة ثانية. وهذه المرة ليس بفعل عدو استيطاني اقتلاعي كالمرة الأولى، هذه المرة بأيدٍ فلسطينية، فمفاعيل التدمير الداخلي تفوق حتى تأثيرات الأعداء. وإذا كانت النكبة الأولى قد استطاعت ابتلاع الأرض الفلسطينية، وتأسيس دولة إسرائيل، إلا أنها لم تستطع أن تبدد الشعب الفلسطيني في عملية الاقتلاع التي خضع لها. وإذا كان من الصحيح أنها استطاعت طرد الشعب، فإنها لم تستطع إخفاءه عن الخريطة السياسية. ليس المشروع الوطني عرضةً للتبديد اليوم على يد القيادات الفلسطينية فحسب، بل والهوية الوطنية أيضاً، فالقيادة تعتبر أنها غير معنية بالمخيمات الفلسطينية في الخارج، وبالتالي غير معنية بالفلسطينيين هناك. في الوقت الذي تم فعلياً تحطيم التجمعات والمخيمات في خارج فلسطين على مدى الثلاثة عقود الماضية، واليوم مأساة فلسطينيي سورية هي استمرار لمآسي الفلسطينيين التي شاهدناها في لبنان والعراق والكويت.
لا يمكن مواجهة الواقع الفلسطيني المرّ، ولا يمكن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي واستطالته
الاستيطانية، سوى بامتلاك مشروع وطني تحريري ديمقراطي جامع، ينتمي إلى الحرية والعدالة. ولا يمكن النجاح في مواجهة إسرائيل، وبناء مستقبل فلسطيني من دون امتلاك مشروع وطني يرسم معالم المستقبل الفلسطيني (لاصق وطني)، وحتى المستقبل الإسرائيلي، فقد بات إنقاذ إسرائيل من عنصريتها مهمة فلسطينية. ولكن هذه المهمة لا يمكن القيام بها في ظل الواقع السياسي الفلسطيني القائم، والذي لا يملك أي إجاباتٍ على أبسط القضايا. وبالتأكيد لا يملك أي مشروع وطني تجاه المستقبل، كل ما يقوم به هو سياسات تكيف مع واقع الحال المزري، وهو أسوأ سياسية فلسطينية يمكن اعتمادها. لذلك، مؤكّدٌ أن المؤسسات والقوى القائمة غير قادرة على القيام بالمهمة، وباتت تلعب دوراً سلبياً في الواقع الفلسطيني، حيث بات التحرّر والتخلص منهما مهمة وطنية ملحّة لإنقاذ المشروع الوطني، قبل أن يتحطم الوضع الفلسطيني نهائياً.
لا يفسر هذا التناقض أزمة عدم الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية فحسب، بل ويفسر المأزق الفلسطيني التاريخي الذي دخلته التجربة الفلسطينية مع دخولها المفاوضات السياسية مع إسرائيل على أساس نتائج حرب عام 1967. كما يمكن القول إنّ الوطنية الفلسطينية الحديثة وُلدت ردّا على محاولة الإلغاء التي تعرّض لها الفلسطينيون بعد 1948، وبالتالي، أصبحت النكبة جزءاً مكوّناً من الهوية الوطنية الفلسطينية التي ساهم الشتات الفلسطيني في بنائها، على الرغم من امتداد هذا الشتات مكاناً وزماناً، وهو ما شكّل خصوصية هذه الهوية، وتكوينها المركب، بوصفها رداً على حالة الشتات والاقتلاع. وبحكم افتقاد الفلسطينيين وطنهم، تطابق الوطن مع منظمة التحرير بوصفها الوطن المعنوي لهم، فتشكيلها يعود تاريخياً إلى ما قبل حرب 1967، حتى لو كانت سيطرة الفصائل المسلحة عليها بعد هذا التاريخ، لكن أغلبية هذه التكوينات كانت موجودة قبل تلك الحرب، وكانت تسعى إلى الرد على النكبة التي ألغت الوطن الفلسطيني.
إذا كان الفلسطينيون قد وجدوا في منظمة التحرير وطنهم المؤقت البديل، وإذا لم تكن للمنظمة
بدل أن تعمل النكبة على دفع اللاجئين الفلسطينيين إلى الدخول في مجتمعاتٍ أخرى تحجب هزيمتهم، أدمجوا هزيمتهم، وحوّلوها إلى واحدٍ من مكونات هويتهم التي استعادوا من خلالها، بعد عقدين من الهزيمة، وجودهم السياسي (منظمة التحرير) الذي يطالب بحقوقهم المشروعة في وطنهم. ولم يكن الحفاظ على الهوية وحده الفاعل الأساسي في تكوين ما يمكن تسميتها "الوطنية الفلسطينية الحديثة"، فقد كانت إقامة دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني عاملاً رئيسياً في تكوين هذه الوطنية، وكان وجود العدو مجسّداً في دولةٍ عدوانيةٍ، وفّرت حالة إجماع عند الفلسطينيين على معاداة هذا "الكيان" الذي اغتصب أرضهم وحقوقهم، وإدماجه في إيجاد نوع من الوحدة الفلسطينية. ولكن الحفاظ على الهوية وتوحيد إسرائيل، المقامة حديثاً لمشاعر الفلسطينيين، لم تجعل الوضع طبيعياً، فقد كانت التجربة الفلسطينية تُخاض في شروط خاصة واستثنائية. وعلى الرغم من القدرة الفلسطينية على إعادة إنتاج الذات الوطنية، فإن التجربة الفلسطينية لم تنج من التشوهات التي أصابت التكوين الفلسطيني، بحكم هذه الظروف التي عاشها باعتبارها تجربة مترامية في الجغرافيا، مرحلة كفاح عسيرة سنوات طويلة من خارج الوطن. وما تم إنجازه في أصعب الظروف الفلسطينية تهدّد، مع دخول التجربة الفلسطينية مرحلة التفاوض مع إسرائيل، ففي الشروط التي وضعت لهذه المفاوضات، تم استبعاد الأساس المكون للقضية الفلسطينية، اللاجئين بوصفهم التجسيد الحي للنكبة المستمرة، فشروط الحل، بوصفه يقوم على أساس معالجة احتلال عام 1967، أخرجت عملياً الأساس المكوّن للقضية من دائرة البحث، ووضعها قضية مؤجلة إلى مفاوضات الوضع النهائي التي لم تأتِ. أحبط هذا الوضع اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، والذين اعتبروا أنهم باتوا فعلياً
بدخول المفاوضات، بالشروط السياسية التي فرضت على المنظمة، لم يتم التلاعب بقضية اللاجئين فحسب، بل أدخلت هذه المفاوضات المشروع الوطني والهوية الفلسطينيين في حالةٍ من التفكك أيضاً، استمر في إيجاد حالة من التردّي الفلسطيني، وصولاً إلى الانقسام والاقتتال الدموي الذي وضع جزءاً من الوطن الفلسطيني في مواجهة الجزء الآخر، الضفة الغربية في مواجهة قطاع غزة، وما تزال هذه المواجهة مستمرة، بعد أكثر من عقد على انفجار الصراع الفلسطيني الداخلي.
تقول معطيات الوضع الفلسطيني إننا اليوم أمام نكبة ثانية. وهذه المرة ليس بفعل عدو استيطاني اقتلاعي كالمرة الأولى، هذه المرة بأيدٍ فلسطينية، فمفاعيل التدمير الداخلي تفوق حتى تأثيرات الأعداء. وإذا كانت النكبة الأولى قد استطاعت ابتلاع الأرض الفلسطينية، وتأسيس دولة إسرائيل، إلا أنها لم تستطع أن تبدد الشعب الفلسطيني في عملية الاقتلاع التي خضع لها. وإذا كان من الصحيح أنها استطاعت طرد الشعب، فإنها لم تستطع إخفاءه عن الخريطة السياسية. ليس المشروع الوطني عرضةً للتبديد اليوم على يد القيادات الفلسطينية فحسب، بل والهوية الوطنية أيضاً، فالقيادة تعتبر أنها غير معنية بالمخيمات الفلسطينية في الخارج، وبالتالي غير معنية بالفلسطينيين هناك. في الوقت الذي تم فعلياً تحطيم التجمعات والمخيمات في خارج فلسطين على مدى الثلاثة عقود الماضية، واليوم مأساة فلسطينيي سورية هي استمرار لمآسي الفلسطينيين التي شاهدناها في لبنان والعراق والكويت.
لا يمكن مواجهة الواقع الفلسطيني المرّ، ولا يمكن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي واستطالته