مشروع النهضة بين الناصرية والإخوان

29 أكتوبر 2015
هذا كله إرث ناصري (مواقع التواصل)
+ الخط -
من أظهر التأثيرات الناصرية على جماعة الإخوان المسلمين في مصر مسألة التركيز على التوجه للدراسة العلمية البحتة (الطب والهندسة) وتفضيلها على الدراسات الأدبية والنظرية، ولا يقتصر هذا التأثير على جماعة الإخوان المسلمين فقط بالطبع، بل يمتد هذا الإرث الناصري ليشمل أكثر المصريين، ويظهر أكثر ما يظهر في قدسية امتحانات الثانوية العامة وأسطورة كليات القمة علمية التوجه غالبًا.


هذا كله إرث ناصري نتيجة لحاجة الدولة وقتها لتخريج كفاءات علمية وتكنوقراط محايد، مهندسين غالبًا، للمساهمة في مشاريع نهضتها، فكان التعليم التقني والالتحاق بجهاز الدولة وسيلة ترقٍّ إلى أعلى درجات السلّم الاجتماعي. لكن بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، ربما كان هناك عامل آخر ساهم في ترسيخ هذا التوجه، وهو أن تركيبة إخوان السبعينات اكتسبت حاضنتها الشعبية من الحركة الطلابية الإسلامية النشطة في نهايات الستينات وبداية السبعينات، وهي الحركة التي كانت تنشط أكثر ما تنشط في الكليات علمية التوجه: الطب والهندسة أيضًا.

ويمكن مراجعة أسماء مجلس أمراء الجماعة الإسلامية في السبعينات وكلياتهم، ومراجعة تشكيل مكتب إرشاد الجماعة الذي قادها في الأعوام الأربعة الأخيرة للتأكد من ذلك. وربما كان المجال النظري الوحيد الذي يشهد تواجدًا إسلامويًا حقيقيًا هو القانون، لكن للأسف ليس كل مجالات الدراسات القانونية، فاهتمام الإسلاميين بالقانون عادة ينحصر في جانبه العملي الجنائي والمدني، أما ما يتعلق بالتصورات الكلية للدولة والنظام التي يوفرها القانون الدستوري فلا نجد اهتمامًا واضحًا بها.

حين تأسست الجامعة الأهلية في مصر، وهي تجربة منبتّة الجذور عن تجربة محمد علي، وفي سياق المستعمرة التي لم يكن متصورًا لها أن تحتاج أو تنتج معرفة تقنية غير ما يمنحه إياها المستعمِر ليحسّن استغلالها لصالحه، تأخر تأسيس كلية الهندسة إلى عام 1935. لكن الهندسة شهدت عصرها الذهبي مع الناصرية، فمع قتل السياسة، بصورتها الليبرالية التقليدية، واعتماد عبد الناصر على شرعية الإنجاز المباشر، احتاج إلى تكوين نخبة جديدة جلبت عناصرها من ضباط الجيش، والمدنيين التكنوقراط، والضباط التكنوقراط، لتحقيق هذه الشرعية.

التكنوقراط عادة هم منفذوا سياسات لكنهم لا يضعون السياسات، فمهمتهم هي أن يرشدوا السياسي ـ المسؤول المنتخب ـ إلى أفضل طريقة عملية لتنفيذ مشروعه، بغض النظر عن المشروع نفسه وتأثيراته الأخلاقية والاجتماعية التي يجب أن يتحمّلها هذا السياسي. وهذه النخبة التي أنتجتها الناصرية آمنت أن طريق الإنتاج المادي واللحاق بالغرب هو مشروع النهضة الوحيد الذي يمكن تقديمه للبلاد. وقد أثر هذا التوجه "التقني"، إذا جاز لنا التعبير، على جميع مشاريع الإصلاح التي ظهرت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين ومنها مشروع جماعة الإخوان نفسه، فقضى على شموليته الأخلاقية والاجتماعية التي ظهرت في التجربة الأولى على عهد الأستاذ البنَّا، وحصره في جانبه السياسي، وحصر السياسي نفسه في جانبه التقني وخنقه في شرعية الإنجاز الناصرية نفسها، وهي الشرعية التي قدم نفسه بها بعد الثورة: مشروع النهضة.

وبما أن التكنوقراط عادة منفذوا سياسات جزئية غير قادرين على تقديم رؤىً كلية، وهم كذلك غير منتخبين قطعًا، بل تختارهم القيادة بناءً على معايير الثقة ثم الكفاءة، فيمكن استخدامهم بطرق عدة. ولكن ما صنع الفرق بين النظام والجماعة أن النظام دولة وأن الجماعة في النهاية هي تنظيم معارض يمكن حصره واستخدامه في مساحات معيّنة مع عقابه إذا حاول تجاوزها. إن الجماعة أنتجت تكنوقراط خدميين ساهموا كثيرًا في ما تصورته اختراقًا للمجتمع بتقديم الخدمات بكفاءة بديلاً عن الدولة مع استخدام ذلك الرصيد وحرقه سياسيًا كلما حانت الفرصة لذلك، وحين جد الجد لم تجد الجماعة سياسيًا واحدًا حقيقيًا يمكنها الاعتماد عليه، فضلاً عن خبير في الاقتصاد، باستثناء مجموعة من رجال الأعمال المشتغلين بتجارة التجزئة والاستيراد. وبالطبع لا معنى للحديث عن قانونيين أو علماء اجتماع أو خبراء إعلام أو فقهاء حقيقيين، وكانت تلك بداية المأساة.

شرعية الإنجاز تلك في جوهرها، وإن تزيَّت بزي الاختيار الديمقراطي في حالة الإخوان على عكس الحالة الناصرية، كانت سببًا رئيسًا في تصاعد معدلات علمنة المجتمع؛ إذ إنه مع سيادة الاعتقاد بأن الخلاص يكمن في التقنية وزيادة الإنتاج المادي كهدف في ذاته، اختفت مسارات الإصلاح الأخرى الممكنة. ويمكن بسهولة ملاحظة أن أهم رموز ما يسمى الفكر المصري والثقافة المصرية، بما فيها الرموز الفكرية والشرعية للإخوان المسلمين أنفسهم، هي رموز تنتمي للنصف الأول من القرن العشرين. وامتد أثر تصاعد معدلات العلمنة ليصل إلى الفن، فاختفت فنون معيّنة أقرب للعربية، كالموشحات والتواشيح والطقاطيق والأدوار، لصالح مجموعة من الأغاني الخفيفة القصيرة العامية مع عبد الحليم حافظ وجيله، واختفى الشعر العربي التقليدي لصالح الشعر الحديث وضعف إنتاجه نسبة لإنتاج فنون الرواية والقصة القصيرة، وصُفّي النزاع القديم بين الرافعي والعقاد لصالح أمل دنقل وجيله. وامتد تأثير العلمنة للغة العربية نفسها، وكان من المساخر أن بداية تدهور تدريس اللغة العربية واستخدامها في المجال العام، حيث إنها غير مهمّة لمشروع النهضة الناصري، كان في عصر صعود القومية العربية.

إلا أن أسوأ ما أصاب الحركة الإسلامية من غلبة التوجه التكنوقراطي على قيادتها وأفرادها هو ما أصاب تصوراتها الكلية، فمع الرؤية التجزيئية التكنوقراطية للواقع انتفت إمكانية بناء تصوّر حقيقي للدولة والشريعة والإسلامية وغيرها من الشعارات التي ترفعها الحركة الإسلامية أمام أتباعها وفي وجه خصومها. ومع الرؤية التجزيئية التكنوقراطية للواقع يمكن أدلجة التاريخ والسيرة واستخدامهما مع جزئيات الفقه لتبرير خيارات جزئية عادة ما يكون الجهد المبذول لتكييفها دينيًا أكبر من الجهد المبذول لاستنباطها من الدين على الحقيقة. ومع الرؤية التجزيئية التكنوقراطية يمكن أسلمة كل شيء تقريبًا، بداية من قروض البنك الدولي إلى توكيلات استيراد علامات الملابس الغربية.

إن الاهتمام بالمعرفة النظرية والشرعية ليس ترفًا ولا فلسفة فارغة ولا دعوة للقعود، بل يُفترض أن هذه المعرفة هي ما يرسم الطريق الذي يجب أن يسير فيه التكنوقراط والتقنية بعد ذلك. لم يكن مشروع النهضة الذي قدمه الإخوان إذن، من هذه الزاوية، سوى محاولة بائسة في الوقت الضائع لاستكمال مشروع النهضة الناصرية الآفل؛ فهم، من هذه الزاوية أيضًا، من أبناء الناصرية ودولتها وتصوراتها وطبقتها الوسطى وتكنوقراطها ونهضتها.

(مصر)
المساهمون