ومنذ الإعلان عن المبادرة، ترقب التونسيون ردّ علماء الدين ومشايخ المدارس الدينية الكبرى، وجاء الرد واضحاً أمس في ندوة صحافية عقدها مشايخ جامعة الزيتونة، واعتبروا فيها أن مبادرة بن غربية تعتبر "انتهاكاً للشريعة ومساً بهوية الشعب التونسي الإسلامية".
وانطلق السجال حول الهوية منذ الأيام الأولى للإعلان عن المبادرة، بحيث اعتبر وزير الشؤون الدينية، محمد خليل، أنها "منتقصة لحقوق الرجل"، داعياً لإعادة النظر فيها، ليردّ صاحبها بن غربية بأنها لم تحل حراماً، وانما تعتمد على تخيير الورثة بقبول القسمة المتساوية للميراث فيما بينهم.
ونظم علماء منتمون لجامعة الزيتونة ندوة بالعاصمة، نددوا فيها بإثارة المسألة من الأساس واعتبروها اعتداء على الشريعة الإسلامية، وقال الأستاذ بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، سليمان الشواشي، خلال الندوة، إن "المبادرة تعد مثالاً على وجود إفلاس فكري وتعليمي وقانوني. إنها قضية مفتعلة الهدف منها تفريق أبناء الشعب وصرفهم عن القضايا الحقيقية"، على حد تعبيره.
واستشهد الشواشي بالفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، مضيفاً أن "النص على أن الإسلام دين الدولة يمنع بالتالي المس بأحكام الإسلام، وأحكام الميراث جزء منه، لذلك يحرم تغييرها أو تبديلها أو تعطيلها".
وواصل وزير الشؤون الدينية الأسبق، نور الدين الخادمي، في السياق نفسه، معتبراً أنه كان من الأجدر أن يلتفت البرلمان إلى التنمية والتشغيل بدل "هتك الشريعة الإسلامية". وأوضح لـ"العربي الجديد"، أنه "جرى الاطلاع على مبادرة تحديد المنابات في الميراث والتثبت من مخالفتها للشرع الإسلامي".
وأوضح الخادمي أن المبادرة "مست الشريعة بانتهاكها لنص قطعي ومحكم متفق عليه بالإجماع وموضع تسليم، والحديث عن التراضي والتخيير في اعتماد التساوي لا ينزع عنها صفة مخالفة الحكم الديني لأن النص قطعي ووارد في القرآن والسنة"، مضيفاً أن التخيير يخالف قاعدة "للذكر مثل حظ الانثيين"، وأنه لا يجوز مخالفتها ولو اتفق الورثة على ذلك.
وشدد على أن "الشرع نظم انتقال الملكية بين المورث والورثة، وله رؤيته في ذلك مبنية على الإنصاف والمساواة لاختلاف صور ميراث المرأة". وعاب الخادمي على صاحب المبادرة عدم استشارته للمؤسسات الشرعية في البلاد، وبينها ديوان الإفتاء والمجلس الإسلامي ومشايخ الزيتونة قبل عرضها على التونسيين، لافتاً إلى أن "المجتمع التونسي له نظامه وعاداته ومرجعيته الإسلامية" التي لا يجوز المس بها.
وإذ ينص الدستور على أن تونس دولة مدنية، مشدداً على عدم تعديل هذا الفصل، يعتبر خبراء القانون أن الإقرار بمدنية الدولة يحيل إلى المحافظة على المنظومة القانونية التونسية التي تعتمد على القانون الوضعي وأن لا تكون الشريعة الإسلامية إلا مصدراً شكلياً ثانوياً للتشريع.
بينما يرفض علماء الدين هذا التفسير القانوني للدستور، بل يصرون على أن الدستور يعزز المرجعية الإسلامية للبلاد، ويقول وزير الشؤون الدينية الأسبق، لـ"العربي الجديد"، إن "الدولة المدنية هي الدولة التي ينتمي اليها المسلمون وغيرهم، ويحتكمون للدستور والمواطنة، وهو بدوره ما يحيل إلى أن المواطنين التونسيين في غالبهم لهم مرجعية إسلامية، وبالتالي وجب احترامها".
وأضاف أن "الدستور ينص أيضاً على أن الإسلام دين الدولة، وهو يحتوي على أحكام للميراث والأسرة وغيرها، والدولة تبحث عن مقاربة للحقوق والحريات والواجبات وفق رؤية لا تتعارض بدورها مع الإسلام".
إلى ذلك، دعا عدد من الشيوخ النواب إلى عدم التدخل في المسائل التي لها علاقة بالشرع الإسلامي، معتبرين أن سن مدونة سلوك قانونية توضح حدود المبادرات التشريعية أضحى أمراً ملحا حتى لا تتكرر محاولات انتهاك الشريعة.
وجدد بن غربية في حديث لـ"العربي الجديد"، تأكيده على أنه لا يريد الدخول في جدال مع رجال الدين، مشدداً على الجانب الاختياري المنصوص عليه بالمبادرة، منبهاً في الآن نفسه مشايخ الزيتونة إلى أن البلاد ينظمها قانون وضعي ويحكمها الدستور، "من يريد اتباع أحكام الشريعة فعليه تغيير كامل المنظومة القانونية".
وعلق النائب على الدعوة إلى صياغة مدونة توضح حدود تدخل النواب، قائلاً إن "البرلمان والنواب مفوضون لسن القوانين، وينظم الدستور هذه العملية، ولا يمكن لأطراف أخرى أن تملي عليهم ما يتاح لهم التدخل فيه من عدمه"، على حد تعبيره.
يذكر أن مبادرة تحديد المنابات في الميراث، تترك الخيار للورثة بالقسمة المتساوية في ما بينهم، وتلزم القاضي في حال نشوب نزاع حول القسمة المتساوية بالقضاء وفق ما تنص عليه المبادرة في حال إقرارها من البرلمان.
وكان عدد من النواب الذين وقعوا على المبادرة من كتل سياسية مختلفة، سارعوا لسحب توقيعاتهم عليها خشية ردة فعل شعبية ضد المشروع، معتبرين أن المبادرة جاءت في غير توقيتها ودون دراسة كافية، في حين نددت منظمات نسوية وحقوقية بذلك مستنكرة تخلف بعض النواب عن الدفع باتجاه تدعيم مكاسب المرأة وفق رؤية تقدمية تقوم على المساواة.