في حال تحققت التسريبات بشأن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن تحوّل في موقف الولايات المتحدة من القدس المحتلة الأربعاء المقبل، تكون القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي قد دخلا مرحلة جديدة غير مسبوقة من عام 1967، وهو العام الذي بات مصير القدس فيه أحد معالم القضية الفلسطينية عموماً. الاعتراف الأميركي بالقدس "عاصمة" لاسرائيل ونقل السفارة إليها، إن حصلا بالفعل، يربطهما كثيرون باقتراب إعلان واشنطن ما لديها في ما يتعلّق بما يسمى التسوية الشاملة أو الصفقة الشاملة، بشكل يعطي لإسرائيل كل شيء، مقابل لا شيء حرفياً للفلسطينيين.
وإن كانت ردة فعل عربية قوية غير متوقعة إلى حدّ كبير نظراً للأنظمة العربية الحالية، فإن ردة الفعل الشعبية، خصوصاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي أوساط فلسطينيي الشتات، هي التي ستكون الكبرى ربما. وهو ما ينذر بانتفاضة جديدة يمكن أن تكون نظرياً أكبر بكثير من كل الانتفاضات السابقة، إلى جانب حصول ردة فعل جماهيرية عربية وإسلامية ضد الولايات المتحدة.
وفي حال مضى الرئيس الأميركي بهذا القرار، يرتسم سيناريوان اثنان: الأوّل أنّ هناك احتمالاً لأن يعلن ترامب في آن، عن اعتراف إسرائيلي بالقدس المحتلة كعاصمة لإسرائيل، وإصداره تعليمات بالبدء بإجراءات نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وهناك سيناريو آخر يتمثّل في إعلان ترامب اعتراف الولايات المتحدة بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وفي الوقت ذاته التوقيع على مرسوم رئاسي يؤجّل تنفيذ قرار الكونغرس بنقل سفارة بلاده إلى هناك لستة أشهر أخرى.
وهناك من يرى، في تل أبيب والولايات المتحدة، أن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة المتعلقة بالتحقيقات في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية والكشف عن أن مستشار الأمن القومي السابق لترامب الجنرال مايكل فلين قد قبل أن يكون شاهدا ضده في هذه القضية، تعزّز فرص اندفاع الرئيس الأميركي نحو الإقدام على هذه الخطوة لتعزيز مكانته الداخلية من خلال مغازلة أصدقاء إسرائيل في الكونغرس، ومنهم الكثيرون في الحزب الديمقراطي وجماعات الضغط اليهودية.
في الوقت ذاته، فإن تسريبات إسرائيلية وأميركية أخرى، أشارت إليها القناة الثانية الإسرائيلية، تستبعد أن يقدم ترامب على أي من السيناريوين، على اعتبار أن بعض مستشاريه قد حذروه من مغبة تأثير الإعلان عن أي تحوّل في الموقف الأميركي من القدس، على مصير الجهود الأميركية الهادفة لبلورة مبادرة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تتسبب، من الناحية السياسية، في إحراج الدول العربية التي تراهن واشنطن على دورها في تمرير المبادرة الأميركية العتيدة للتسوية، لا سيما السعودية ومصر والأردن، ناهيك عن أنها ستقلّص هامش المناورة أمام قيادة السلطة الفلسطينية.
وفي حال تحققت التسريبات، وأعلن ترامب بالفعل اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل فقط أو أتبع ذلك أيضاً بالإعلان عن إجراءات بدء نقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدسة، فإن هذا سيؤثر سلباً على قدرة الولايات المتحدة على الإعلان عن مبادرتها للتسوية، بغض النظر عن مضامينها. في الوقت ذاته، فإن التداعيات القانونية للإعلان الأميركي المرتقب تتوقف على جوهر الإعلان ذاته. ففي حال أعلن ترامب عن القدس "الموحدة" (بشقيها الشرقي والغربي) كعاصمة لإسرائيل، فإن هذه الخطوة تنطوي على أبعاد قانونية بالغة الخطورة، تمثّل انقلاباً دراماتيكياً على الموقف الأميركي من احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية بعد حرب 1967، وينسف مواقف واشنطن من قضية الاستيطان في المدينة. فمثل هذا الاعتراف يعني أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في الوجود الإسرائيلي في القدس الشرقية نوعاً من أنواع الاحتلال، وهو ما يعني اعترافاً أميركياً بقانونية كل المستوطنات اليهودية التي بنتها إسرائيل بعد حرب العام 1967، والتي دُشّن جزء منها على أراض تتبع الضفة الغربية وتم إلحاقها بحدود بلدية الاحتلال في القدس. إلى جانب ذلك، فإنّ هذه الخطوة ستمثّل تجسيداً سياسياً وعملياً لحسم قضية القدس قبل الشروع في أية مفاوضات، وتؤكد أن هذه القضية لم تعد جزءاً من قضايا الحل الدائم. وفي حال ترافق الاعتراف بالقدس "الموحدة" كعاصمة لإسرائيل، مع الإعلان عن بدء إجراءات نقل السفارة، فإن هذا يمثّل تكريساً عملياً آخر للاعتراف الأميركي بسيطرة إسرائيل على القدس.
وقد تقود هذه الخطوة إلى تداعيات أمنية كبيرة، على اعتبار أنها قد تمهّد الطريق أمام ردة فعل شعبية فلسطينية تسهم في إشعال الأوضاع في الضفة الغربية والأراضي المحتلة. والخوف من هذا السيناريو، جعل بعض المعلقين العسكريين الإسرائيليين يتحفظون على خطوة ترامب المرتقبة، كما عبر عن ذلك روني دانئيل، المعلق العسكري للقناة الثانية الإسرائيلية.
كذلك، يمكن أن تؤثّر هذه الخطوة على الساحة الفلسطينية الداخلية، بشكل ينعكس إيجاباً على فرص تطبيق اتفاق المصالحة الذي توصّلت إليه حركتا فتح وحماس، إذ إن خطوة ترامب يمكن أن تضفي مصداقية على الدعوات لإنجاز المصالحة بأسرع وقت ممكن.
في المقابل، فإنه نظراً لوجود فريق داخل إدارة ترامب يدرك التداعيات المحتملة لمثل هذه الخطوة، فإنه من غير المستبعد ألا يقدم الرئيس الأميركي في نهاية المطاف عليها. ويمكن بدلاً من ذلك أن يتم توظيف الضجيج الذي تركته التسريبات بشأن الإعلان المتوقّع، في ممارسة الضغوط على قيادة السلطة الفلسطينية لقبول الأفكار التي تضمنتها مسودة المبادرة الأميركية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما أشارت إليها، أمس السبت، بعض وسائل الإعلام العربية، والتي تدعو إلى الإعلان عن دولة فلسطينية في حدود مؤقتة على مساحة تصل إلى نحو 50 في المائة من مساحة الضفة الغربية، مع احتفاظ إسرائيل بالصلاحيات الأمنية والسيادة على الحدود والجو، وتقديم رزمة مساعدات مالية ضخمة لـ "الدولة" العتيدة.
ومن الواضح أنه لا يوجد أدنى احتمال أن تقبل قيادة السلطة الفلسطينية بمثل هذه المقترحات، إذ إنّ ما هو مطروح يمثّل عملياً صيغة مشوّهة من صيغ الحكم الذاتي. ويعي كل الفرقاء في الساحة الفلسطينية، وضمنهم رئيس السلطة محمود عباس، الذي جاهر مراراً برفضه فكرة الدولة على حدود مؤقتة، أن القبول بهذه الفكرة يعني تصفية القضية الفلسطينية، على اعتبار أنها تستثني أيضاً حل قضية اللاجئين. في الوقت ذاته، فإنه في ظل تهاوي الفروق الأيديولوجية بين قوى اليسار واليمين في إسرائيل، بشأن الموقف من مشاريع تسوية الصراع، ومجاهرة رئيس حزب العمل آفي جباي، الذي يدعي تمثيله "معسكر السلام" الإسرائيلي، بأنه يرفض إخلاء مستوطنة واحدة من المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية، فإن هذا يدفع القيادة الفلسطينية لتجنب التعاطي بشكل إيجابي مع المبادرة الأميركية.