مسمياتٌ ارتدت إلى نقيضها

27 ابريل 2015

الوفدان الفرنسي والإنجليزي في مؤتمر سان ريمو (1920/Getty)

+ الخط -

سادت تسمية المشرق العربي فترة بلقب الهلال الخصيب. ولم يكن المقصود فقط خصوبة أرض تلك المنطقة، بل أيضاً خصوبتها الفكرية والثقافية والسياسية وعطاءاتها المسجلة عبر مراحل التاريخ.

سورية عرفت بأنها قلب العروبة النابض الذي كان مصدر إلهام للحركات الوطنية والقومية منذ بداية مرحلة الانتداب. وتلك كانت نقطة تقاطع التيارات المختلفة، وأداة التجسير بين مختلف أطيافها. مثلت دور ساحة التلاقح الفكري والسياسي المتفاعلة وليس المتعاركة.

العراق بلاد ما بين النهرين الذي عرف بغزارة العطاء الأدبي والشعري، والذي شهد بداية واعدة، من ناحية انفتاح العملية السياسية على سائر التيارات، من ضمن قبول التنوع والابتعاد عن سياسة الإقصاء. كما كانت النضالات المتنوعة السياسية والإنسانية قد بدأت تتلمس طريقها إلى أرضه.

لبنان كان بمثابة سامينار (ورشة بحث ونقاش) للعرب، نظراٌ لما أتاحت له تركيبته وانفتاحه الثقافي من مساحة لحرية الرأي والتعبير والعمل السياسي المفتوح. كان وما زال في المرتبة المتقدمة، على الرغم من انزلاقه إلى حرب أهلية، أدرك اللبنانيون عبثيتها، لكنهم لم يتمكنوا بعد من تجاوز الوضع الطائفي الذي يكبل طاقات النهضة والوحدة الوطنية السليمة. مشكلته أنه عجز عن الانتقال من تعدد الطوائف إلى تنوع الطوائف، ضمن بوتقة المواطنة. ولطالما كان لبنان بهذا التمايز، على علاته، الملاذ لمثقفين عرب كثيرين جعلوا منه وطنهم الثاني.

عاش اليمن الذي عرف بلقب السعيد تجربة ديمقراطية، كانت واعدة بمستقبل أفضل، خصوصاً وأنه أقام أول تجربة وحدوية، تمكنت من عبور امتحان الزمن فترة غير مسبوقة في الوطن العربي. الأمر الذي أتاح فرصة للخروج من سجن القبائلية والطائفية إلى وضع متماسك وأرحب، من شأنه أن يوفر لليمنيين مخرجاً إلى صيغة المواطنة، وكان يمكن أن يكون بذلك القدوة أو المحفز على تحقيق تجارب مماثلة.

كان السودان من أغنى الساحات السياسية والأدبية في الوطن العربي. أعطى رعيلاً من القيادات اللامعة في هذه المجالات، والتي لعبت دوراً في التفاعل مع التيارات الفكرية والسياسية في أواسط القرن الماضي. لكن الديكتاتورية العسكرية التي عملت على خنق هذه الإمكانيات انتهت بتقسيم البلد، وتعطيل دوره وطاقاته، بل وتهشيم صورته، وتهميش إمكانات شعبه.

أما مصر التي كانت ساحة التلاقح والتعارف بين مشرق الأمة ومغربها فقد فقدت جزءاً من هذا الدور المبدع، بسبب ما شهدته، أخيراً، من تغيير أدى إلى ديمقراطية ملتبسة ودور ضبابي في الوطن العربي.

ليبيا كانت ضحية خلل مزدوج، تمثل عنصره الأول في نظام القذافي الذي جمّد كل طاقات البلد وشعبه وإمكاناته ومساهماته المحتملة، فسلم بلداً كل شيء فيه معطل. العنصر الثاني هو ما تتفاعل عوامله الآن على شكل فوضى، باتت ليبيا معه مكشوفة وسريعة العطب، تنذر بمزيد من الكوارث، ما لم تنجح المحاولات الراهنة التي تبدو جدّية وواعدة في العثور على المخرج المطلوب.

الاستقرار القائم نسبياً في المغرب العربي الكبير، خصوصاً في تونس، أمام امتحان يؤمل أن يؤدي إلى مأسسة تؤول إلى ترسيخ الخطى نحو التطوير المطلوب. ينطبق الشيء نفسه على دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع باستقرار متميز، لكنه يحتاج إلى مزيد من الترسيخ لضمان ديمومته. وبذلك، يمكن للمغرب والمشرق الخليجي أن يلعبا دور التجسير العربي في مواجهة التمزق، باعتبارهما الطرفين المؤهلين للنهوض بدور التصحيح العربي، في الوقت الراهن.

في كل هذه الحالات وغيرها، انتهينا إلى نقيض الإرث والمسميات. ففي المشرق حلّ القحط والجدب الفكري والسياسي مكان العطاء المؤسس والواعد. صحيح أن في بعض بلدانه، مثل لبنان، ما زال المجتمع المدني محتفظاً بنبضاته، بل هو يشهد حالة من الحراك الذي يمكنه أن يعزز تماسك الوضع الوطني والاجتماعي، لكن وباء الطائفية في لبنان، وغيره من أقطار عربية، ما زال الخطر الأكبر الذي يهدد، ليس الأمن والسلام في المنطقة فقط، بل هو يهدد بتمزيق ما تبقى من النسيج الاجتماعي والوطني والقومي. ففي نهاية الأمر، لا يستقيم التصدي لهذا الخطر من خارج تفعيل عروبة الأمة، باعتبار أن هذا التفعيل هو الضامن لكيان المواطنة ومساواة المواطنين.