15 مايو 2024
مستقبل الإصلاحات في العراق
في العاشر من أغسطس/آب 2015، أطلق رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، حزمة من الوعود الإصلاحية، استجابة لمطالب المتظاهرين العراقيين في بغداد، وفي محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية، باجتثاث الفساد، وتوفير الخدمات وإلغاء المحاصصة الطائفية. وقد كان لموقف العبادي صدى طيب وتفاعلي داعم من المتظاهرين أساساً، ثم من المرجعية الدينية في النجف الأشرف، وكذلك من البرلمان العراقي الذي أعلن رئيسه، سليم الجبوري، في 10 أكتوبر/تشرين الأول، تأييده العبادي، وطالب بإقالة وزراء ثبت ضلوعهم في الفساد، مثل وزيري الكهرباء والموارد المائية قاسم الفهداوي ومحمد الشمري، كما عجلّت لجنة التحقيق في أسباب سقوط الموصل من إتمام تحقيقاتها، ورفعت النتائج إلى القضاء، ليتخذ الإجراءات القانونية بحق المسؤوليين عن الهزيمة الكبيرة للجيش العراقي في هذه المحافظة، وتمكين تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة عليها، وكان في مقدمة المدانين رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي.
تهدف ورقة الإصلاح السياسي التي كان العبادي تقدم بها إلى البرلمان العراقي إلى تحقيق أمرين رئيسيين؛ مكافحة الفساد وتحسين الخدمات العامة. وكانت أولى قراراته، إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فوراً؛ ويشغل مناصب نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، وهي فخرية أكثر منها تنفيذية، زعماء الأحزاب التي تحكم البلاد، نوري المالكي (كتلة دولة القانون) ورئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي (كتلة متحدون) ورئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي (القائمة الوطنية)، وتشغل ثلاث شخصيات سياسية مناصب نواب رئيس مجلس الوزراء، بهاء الأعرجي عن التيار الصدري، وصالح المطلك (الكتلة العربية) ، وروش نوري ساويش (التحالف الكردستاني).
لاقت قرارات العبادي، إضافة إلى الترحيب المحلي الشعبي والرسمي، ترحيباً عربياً ودولياً. وكانت كل الأجواء مهيأة للعبادي للمضي في الإيفاء بوعوده بالإصلاح، لكن المشهد الفعلي في الواقع لم يكن كذلك، وبات السؤال الملح في العراق، على مستوى الجماهير المنتظرة والقوى السياسية والإعلامية المراقبة للوضع العراقي: هل قامت حكومة رئيس الوزراء العراقي العبادي بإجراءات حقيقية في مكافحة الفساد؟ وما مدى جدية تلك الإجراءات؟
بداية، وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، ما تجب الإشارة إليه أن العبادي لم يطرح خطة للإصلاح، بل لم تكن لديه بالأساس خطة، وطرح فقط مفاهيم للإصلاحات، وقام بإجراءات لم يستطع أن يمتلك أدوات تنفيذها، وخصوصاً في موضوع إقالة نواب رئيس الجمهورية؛ ذاك أن العبادي ظل يحيط نفسه بدائرة القرار الحزبي "حزب الدعوة"، ولم يستثمر ما أعطته الجماهير والمرجعية من تفويض لمحاربة الفساد والفاسدين، كما لم يستطع تصريف هذا التفويض بشكل سياسي ناضج، وكان عليه لتصريفه، أولاً، الخروج من عباءة الحزب إلى عباءة الدولة، الأمر الذي مكّن خصومه لاحقاً من إعادة ترتيب أوراقهم.
ومع مرور الوقت، ومع عدم تحقيق أي من الوعود الخاصة باجتثاث الفساد والمفسدين، بدأ
الشعب العراقي ينظر إلى وعود العبادي على أنها مجرد وعود تخديرية، وليست إصلاحية، خصوصاً بعد ما أشيع من تهديد تلقاه العبادي، في أثناء حضور الجنرال الإيراني قاسم سليماني، لإجتماع التحالف الوطني، وتحذيره من مغبة التعرّض للعملية السياسية في العراق.
إن تراجع السلطتين التنفيذية والتشريعية عن الإصلاحات، بل التخلي حتى عن ورقتي الإصلاح اللتين تم طرحهما في الثامن والعاشر من أغسطس/آب 2015 من خلال قرار البرلمان الصادر في 2/11/2015، يؤشر إلى قوة الرغبة السياسية في وأد وجهة الإصلاح، وهي في مهدها، وأثبت عدم جدية مجلس النواب، في مكافحة الفساد، كما أثبت عجز السلطات الثلاث عن تحقيق رؤية الجماهير ومطالبها.
ومن متابعة إجراءات السلطات الثلاث في تنفيذ المطالب المشروعة للمتظاهرين، وأبناء الشعب العراقي، يؤكد المتابعون بدقة أنها لم تكن في مستوى الوعود الإصلاحية فعلاً؛ فبالنسبة إلى السلطة التنفيذية، لم تكن جادة فعليا في تنفيذ الإجراءات التي تضمنتها حزمة الإصلاحات التي أعلن عنها رئيس الوزراء، حيدر العبادي، مثل طرح مشاريع قوانين تعالج الفراغ القانوني الذي تخلفه الإجراءات، ومنها مشروع قانون إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، مشروع قانون دمج الوزارات، مشروع قانون تخفيض رواتب الرئاسات الثلاث.. وغيرها، كما أن العبادي لم يطرح برنامجاً شاملاً وحقيقياً للإصلاح، ينفذ على أرض الواقع، واكتفى بإجراءات إدارية غير جذرية، إضافة إلى أنه لم يعمل بشكل حيوي على بناء استقطاب سياسي، يفضي إلى تكوّن كتلة برلمانية داعمة ومساندة له، مقابل هوامير الفساد المتمكنة من الرئاسات الثلاث.
بدل أن تحقق حكومة العبادي مردوداً مالياً ومعنوياً للجماهير الغاضبة، والمؤيدة لخطواته المعلنة، من خلال استعادة بعض الأموال المنهوبة والمهربة، ذهبت إلى إصدار قرارات تقشفية، كان ضحيتها الأولى صغار الموظفين؛ وهم عامة الشعب. وتقاعس مجلس النواب العراقي، أيضاً، عن تنفيذ ورقته الإصلاحية الأولى، ولم يعلن عن حزمته الثانية التي وعد بإطلاقها، كما لم يبذل المجلس أي جهد تشريعي، يخدم مشروع الإصلاح أو قراراته، كما لم يقم بأي استجواب حقيقي لمسؤولي الدولة، المتهمين بالفساد أو بالتقاعس في أداء واجباتهم، ولم تشكّل أي لجان برلمانية لمتابعة التظاهرات ومطالب المتظاهرين، بصفة النواب ممثلين للشعب.
أما القضاء؛ فقد فشل في أداء واجباته التي يفترض أن تعزز من القرارات الإصلاحية، وتحقق بعض مطالب المتظاهرين المشروعة، ومنها تحديداً إصدار الأوامر القضائية بحق المتهمين بعد تسلمه ملف التحقيق بقضية سقوط الموصل، في 17/8/2015، إضافة إلى تغاضيه عن الانتهاكات التي طاولت الناشطين والمتظاهرين، من تصفيات واعتقالات إلى تغييب قسري، والإجراءات التي وضعتها الشرطة والجيش حول مناطق التظاهر، بما يحدّ من حرية التعبير عن الرأي بشكل سلمي.
بعد ثبوت عدم جدية الوعود الإصلاحية التي أطلقتها السلطات، فإن الأوضاع في العراق تتجه بقوة نحو انفجار جماهيري قد تكون نتائجه وخيمة، بسبب الهوة التي باتت كبيرة جداً بين الشعب والطبقة السياسية الحاكمة، خصوصاً في ظل تراجع خطير بقدرة العراق الأقتصادية والمالية، وعدم تمكّن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه جهات عديدة. كما أن الحرب ضد تنظيم الدولة واستحقاقات هذه الحرب تضع الحكومة العراقية أمام مآزق تعبوية وجماهيرية واقتصادية بالغة الدقة، وهو ما يستدعي تغييراً شاملاً في مفهوم السلطات في العراق، لإيقاف عجلة التدهور في هذا البلد.
تهدف ورقة الإصلاح السياسي التي كان العبادي تقدم بها إلى البرلمان العراقي إلى تحقيق أمرين رئيسيين؛ مكافحة الفساد وتحسين الخدمات العامة. وكانت أولى قراراته، إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فوراً؛ ويشغل مناصب نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، وهي فخرية أكثر منها تنفيذية، زعماء الأحزاب التي تحكم البلاد، نوري المالكي (كتلة دولة القانون) ورئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي (كتلة متحدون) ورئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي (القائمة الوطنية)، وتشغل ثلاث شخصيات سياسية مناصب نواب رئيس مجلس الوزراء، بهاء الأعرجي عن التيار الصدري، وصالح المطلك (الكتلة العربية) ، وروش نوري ساويش (التحالف الكردستاني).
لاقت قرارات العبادي، إضافة إلى الترحيب المحلي الشعبي والرسمي، ترحيباً عربياً ودولياً. وكانت كل الأجواء مهيأة للعبادي للمضي في الإيفاء بوعوده بالإصلاح، لكن المشهد الفعلي في الواقع لم يكن كذلك، وبات السؤال الملح في العراق، على مستوى الجماهير المنتظرة والقوى السياسية والإعلامية المراقبة للوضع العراقي: هل قامت حكومة رئيس الوزراء العراقي العبادي بإجراءات حقيقية في مكافحة الفساد؟ وما مدى جدية تلك الإجراءات؟
بداية، وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، ما تجب الإشارة إليه أن العبادي لم يطرح خطة للإصلاح، بل لم تكن لديه بالأساس خطة، وطرح فقط مفاهيم للإصلاحات، وقام بإجراءات لم يستطع أن يمتلك أدوات تنفيذها، وخصوصاً في موضوع إقالة نواب رئيس الجمهورية؛ ذاك أن العبادي ظل يحيط نفسه بدائرة القرار الحزبي "حزب الدعوة"، ولم يستثمر ما أعطته الجماهير والمرجعية من تفويض لمحاربة الفساد والفاسدين، كما لم يستطع تصريف هذا التفويض بشكل سياسي ناضج، وكان عليه لتصريفه، أولاً، الخروج من عباءة الحزب إلى عباءة الدولة، الأمر الذي مكّن خصومه لاحقاً من إعادة ترتيب أوراقهم.
ومع مرور الوقت، ومع عدم تحقيق أي من الوعود الخاصة باجتثاث الفساد والمفسدين، بدأ
إن تراجع السلطتين التنفيذية والتشريعية عن الإصلاحات، بل التخلي حتى عن ورقتي الإصلاح اللتين تم طرحهما في الثامن والعاشر من أغسطس/آب 2015 من خلال قرار البرلمان الصادر في 2/11/2015، يؤشر إلى قوة الرغبة السياسية في وأد وجهة الإصلاح، وهي في مهدها، وأثبت عدم جدية مجلس النواب، في مكافحة الفساد، كما أثبت عجز السلطات الثلاث عن تحقيق رؤية الجماهير ومطالبها.
ومن متابعة إجراءات السلطات الثلاث في تنفيذ المطالب المشروعة للمتظاهرين، وأبناء الشعب العراقي، يؤكد المتابعون بدقة أنها لم تكن في مستوى الوعود الإصلاحية فعلاً؛ فبالنسبة إلى السلطة التنفيذية، لم تكن جادة فعليا في تنفيذ الإجراءات التي تضمنتها حزمة الإصلاحات التي أعلن عنها رئيس الوزراء، حيدر العبادي، مثل طرح مشاريع قوانين تعالج الفراغ القانوني الذي تخلفه الإجراءات، ومنها مشروع قانون إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، مشروع قانون دمج الوزارات، مشروع قانون تخفيض رواتب الرئاسات الثلاث.. وغيرها، كما أن العبادي لم يطرح برنامجاً شاملاً وحقيقياً للإصلاح، ينفذ على أرض الواقع، واكتفى بإجراءات إدارية غير جذرية، إضافة إلى أنه لم يعمل بشكل حيوي على بناء استقطاب سياسي، يفضي إلى تكوّن كتلة برلمانية داعمة ومساندة له، مقابل هوامير الفساد المتمكنة من الرئاسات الثلاث.
بدل أن تحقق حكومة العبادي مردوداً مالياً ومعنوياً للجماهير الغاضبة، والمؤيدة لخطواته المعلنة، من خلال استعادة بعض الأموال المنهوبة والمهربة، ذهبت إلى إصدار قرارات تقشفية، كان ضحيتها الأولى صغار الموظفين؛ وهم عامة الشعب. وتقاعس مجلس النواب العراقي، أيضاً، عن تنفيذ ورقته الإصلاحية الأولى، ولم يعلن عن حزمته الثانية التي وعد بإطلاقها، كما لم يبذل المجلس أي جهد تشريعي، يخدم مشروع الإصلاح أو قراراته، كما لم يقم بأي استجواب حقيقي لمسؤولي الدولة، المتهمين بالفساد أو بالتقاعس في أداء واجباتهم، ولم تشكّل أي لجان برلمانية لمتابعة التظاهرات ومطالب المتظاهرين، بصفة النواب ممثلين للشعب.
أما القضاء؛ فقد فشل في أداء واجباته التي يفترض أن تعزز من القرارات الإصلاحية، وتحقق بعض مطالب المتظاهرين المشروعة، ومنها تحديداً إصدار الأوامر القضائية بحق المتهمين بعد تسلمه ملف التحقيق بقضية سقوط الموصل، في 17/8/2015، إضافة إلى تغاضيه عن الانتهاكات التي طاولت الناشطين والمتظاهرين، من تصفيات واعتقالات إلى تغييب قسري، والإجراءات التي وضعتها الشرطة والجيش حول مناطق التظاهر، بما يحدّ من حرية التعبير عن الرأي بشكل سلمي.
بعد ثبوت عدم جدية الوعود الإصلاحية التي أطلقتها السلطات، فإن الأوضاع في العراق تتجه بقوة نحو انفجار جماهيري قد تكون نتائجه وخيمة، بسبب الهوة التي باتت كبيرة جداً بين الشعب والطبقة السياسية الحاكمة، خصوصاً في ظل تراجع خطير بقدرة العراق الأقتصادية والمالية، وعدم تمكّن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه جهات عديدة. كما أن الحرب ضد تنظيم الدولة واستحقاقات هذه الحرب تضع الحكومة العراقية أمام مآزق تعبوية وجماهيرية واقتصادية بالغة الدقة، وهو ما يستدعي تغييراً شاملاً في مفهوم السلطات في العراق، لإيقاف عجلة التدهور في هذا البلد.