مستشفى الدمى
20 اغسطس 2020
+ الخط -

قريباً من تمثال الملك جون الأول، أو "الطيب"، حامي استقلال البرتغال من الإسبان الكاستيّان، وصاحب رحلات التوسع الأولى للمملكة البرتغالية آنذاك، وعلى أطراف ساحة الفيجييرا وسط لشبونة، التي تصل إليها كل حافلات المدينة، يجد الواصلون أمامهم مقاهي واجهاتها مزينة بالباكالاو (فلافل البرتغاليين المصنوع من سمك القد)، وغيرها من أطعمة الشارع التي تشتهر بها لشبونة، ومتاجر الأطعمة الصحية الحديثة، وأقدم حلونجيي المدينة، ومتاجر الملابس الرياضية، خاصة كرة القدم.. كلها تحت أبنية مكسوة بالأزوليجو الملون أو قطع السيراميك البرتغالية التقليدية.
هناك، يجد المرء نفسه، وفي هذا المكان بالتحديد، أمام متجر غريب يختلف عما في الساحة، إذ له باب صغير يُخفي خلفه أنواعاً مختلفة من الدمى، وامرأتين هادئتين باسمتين تجلسان أمام خزانة للعرض وتخيطان ألبسة ألعاب داخل المتجر، وتسألان بخجل الداخل إلى المكان أو الفضولي عن نوع المشكلة أو المرض الذي تعاني منه دميته. إنه سؤال اعتيادي لهاتين المرأتين، فهما تعملان وتديران مستشفى الدمى في لشبونة، أو "أوسبيتال دي بونيكاس" العائلي الذي أسسته عائلة السيدة كارلوتا منذ 1830. 
نحن في مستشفى عريق يماثل عراقة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، الذي لم يقبل شكري القوتلي بوجوده على الأراضي السورية، أو المستشفى "الفرنسي" في دمشق؛ فمشفى الدمى لم يتوقف عن العمل منذ ذلك الحين، ولم يهزه نظام نوفو استادتو الديكتاتوري، ولا تحولات البرتغال من الإمبراطورية إلى الديكتاتورية ثم ثورة القرنفل عام 1974. 
تفتح إحدى السيدتين أبواب المتجر الصغير، ليُفاجأ الزائر بسرداب مظلم يبعده عن حرارة شمس الصيف وضجيج الشارع الممتلئ، ويتحول المتجر الصغير إلى بناء طابقي ضخم، يحتوي على كل أنواع العلاجات المخصصة للدمى، التي لعبت بها الطفلات الصغيرات منذ القرن التاسع عشر، والدمى المحشوة اللطيفة.
نشاهد في إحدى الصالات الألبسة المتعددة، والإكسسوارات المختلفة المصنفة حسب نوع الدمية والبلد الذي صنعت فيه. كما أن المستشفى يحتوي على أقسام خاصة لتبديل القطع، كالعيون والرموش، حتى الأيدي والأرجل. كل شيء يمكن إعادة تركيبه ويمكن إعادة تلوينه، لا بل من الممكن إلباس الدمى ما تشاء. 
تقول القائمة على المتحف الذي يشغل طابقاً كاملاً من المستشفى، إن صناعة الدمى تناقصت بشكل كبير في البرتغال وطغت الدمى الإسبانية والألمانية على السوق الأوروبية، لكنها أكدت أهمية هذه الدمى بالنسبة للكثيرين، فهناك أشخاص يرغبون بإبقاء ذكرياتهم قائمة، أو جامعو دمى يجوبون المزادات العالمية. وهناك أيضاً عائلات لشبونية فضلت تصليح دمى أطفالها على أن تشتري ألعاباً جديدة باهظة الثمن، وهي عادة رجعت إلى الحياة اللشبونية في أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 2008.

يحتوي المتحف أيضاً غرفاً خاصة بمنازل الدمى وسياراتها ووسائل النقل التي تستخدمها، وغرفاً لاحتياجاتها الخاصة كالعربات والإكسسوارات، ونجد أيضاً أنواعا مختلفة من الدمى حسب بلد الصنع وعام التصنيع، كما بإمكاننا تلمس الأدوات القديمة التي كانت تستخدم لصناعة الدمى والمواد الخام لترميمها. 
تخبرنا القائمة على المتحف عن المواد المستخدمة لصناعة الدمى التقليدية؛ السيراميك، والورق المقوى، والخشب، لكن حالياً يطغى البلاستيك، إلا أن مواد الصناعة تختلف تاريخياً باختلاف البلد المصنع والطبقة الاجتماعية، ويمكن للزائر التمتع برؤية ألعاب Schild Krot الألمانية ودمى Mariquita Perez وPaola Reina الإسبانية التي أصبحت جزءاً من التاريخ. 
سألنا القائمة على المتحف عن علاقتها مع الدمى، فأجابت أنها تتعامل مع الدمى المريضة وأصحابها، وتحاول تفهّم العلاقة بينهما، وتقوم بعلاج الدمية على هذا الأساس. ثم سألناها عن حالتها النفسية خلال تحركها في المكان خلال الظلام. ضحكت بخجل، واستطردت قائلة إن العديد من الزوار يسألونها عن فيلم "تشاكي"، وإن كانت تشعر بالخوف من الدمى أحياناً. لكنها أكدت أنها ألعاب فقط، وكل الدمى جميلة ولطيفة: "نحن نصنعها كي تلعب بها الفتيات." 
قدمت لنا هوليوود صورة مختلفة عن الدمية البسيطة المخصصة للعب، خاصة في سلسلة أفلام "تشاكي شايلدز بلاي" الشهيرة للمخرج دون مانتشيني، والتي أصبحت جزءاً من ذاكرتنا البصرية والنفسية، إذ تحولت الدمية إلى كائن حي ذي ماض قاس، ويريد الحصول على العدالة من وجهة نظره، يريد أن يكون إنساناً بأي طريقة والفكاك من اللعنة التي نزلت به. أصبحت اللعبة في تلك الأفلام مخلوقاً حاقداً وقاتلاً متسلسلاً، وتصل أمراضه النفسية إلى مرحلة السيكوباتية: أي وحسب تحليلات سلافوي جيجيك في دليله المنحرف للسينما المستند إلى دراسات جاك لاكان النفسية، تداخلت لعبة تشاكي في أفلام الرعب مع رغباتنا ومخاوفنا، وأضحت تلك اللعبة الصغيرة وحشاً لا بد من الحذر منه، وتحولت رؤيتنا البسيطة للألعاب إلى تخوف جديد وتخيلات عن قدرتها على إيذائنا، ولم نعد نرى الدمية بشكل ساذج. 
تصطف الدمى التي نسيها أصحابها في إحدى غرف المستشفى، وفي غرفة أخرى يجد الزائر مجموعة من الدمى المعطوبة، تعتبرها القائمة على المتحف "ذات التعابير الرومانسية"، مجموعة من الذكريات المكومة داخل هيكل، وكأن هذا المستشفى يعيد الزائر إلى عالم الذاكرة وإلى أحضان الطفولة المرحة.
حين أحببنا دمانا المعطوبة ودمانا البشعة من دون الشعور أن عليها أن تكون متناسقة ومتكاملة ومنفوخة المعالم كدمى براتس المخيفة، التي خلقت عدم رضا لدى الفتيات في ما يتعلق بأشكالهن والتي لا يمكن أن تتطابق مع ملامح الدمية البلاستيكية المستحيلة، لكن هذا الأمر يمكن أن يطاول كل أنواع الدمى، كـ باربي وغيرها. 

من جهة أخرى، اعتمد الأطفال ما قبل الأجهزة الذكية على الدمى وعلى الغرض بشكله الفيزيائي المشابه لأغراض الكبار. دمى تعلمك أهمية اللمس والشم والتعامل الجسدي الحاضر مع الأشخاص، في حين أن اللعب في الوقت الحالي يعتمد على العينين وثلاث أصابع، وأصبح عالم الأطفال خيالياً وداخلياً، ينقصه التلامس الجسدي والحركة، وينقصه التعامل البشري وتعلم أبسط أنواع الحوار. لهذا، يقدم لنا هذا المستشفى فرصة لتذكر تلك الحقبة الفيزيائية اللمسية، كما أنه يغير المفاهيم الاستهلاكية المتعلقة بالدمى، لتتحول إلى أعمال شبه فنية معروضة في متحف ولا يمكن لمسها. 
أسست المستشفى امرأة لشبونية تدعى كارلوتا، كانت تصنع ملابس دمى في سوق بايشا الكبير. سوق كانت تملأ الساحة خلال اليوم، وتحتوي على كل أنواع المبيعات التي يمكن أن يجدها سكان المدينة. وتعتبر أوسبيتال دي بونيكاس أقدم متجر لتصليح وترميم الدمى في العالم.
من سخرية القدر، أظهرت لنا صور تفجير بيروت الأخير وأخبار الإصابات الهائلة بوباء كوفيد 19 في دمشق أن الدمى لديها مستشفى عريق في لشبونة، بينما يضطر المصابون في الانفجار إلى إقامة عمليات جراحية كاملة في الشارع، ويضطر المصابون في دمشق إلى تجاهل الإصابة بالوباء وتحمل الأوجاع والأعراض بسبب سوء الأوضاع المعيشية، فيما اضطر سابقاً المصابون بقصف طائرات النظام السوري إلى إقامة عمليات ميدانية بين الأنقاض في سورية، وآخرون اضطروا إلى عبور الحدود مُصابين ليتمكنوا من تسكين ألمهم.

المساهمون