مساهمة تقليدية للعرب في سوق الخدمات

19 ابريل 2019
القدرة الإنتاجية العربية لا تزال دون المأمول (Getty)
+ الخط -

لا ينفصل الاهتمام الاقتصادي بقطاعي الإنتاج والخدمات داخل أي مجتمع، وقد حظي قطاع الخدمات باهتمام أكبر في ظل ثورة المعلومات والاتصالات، إذ لم يعد القطاع قاصرًا على الأداء التقليدي في النقل والتعليم والصحة وباقي الخدمات الحكومية، أو التجارة المباشرة في السلع.

وحسب بيانات منظمة "الأونكتاد" فإن مساهمة قطاع الخدمات عالميا تطورت بشكل كبير خلال الفترة 1980 - 2015، إذ زادت في البلدان المتقدمة من 61% إلى 76%، وفي البلدان النامية من 42% إلى 55% .

ولا يمكن إغفال أمرين مهمين في زيادة حصة قطاع الخدمات في الاقتصاد العالمي منذ مطلع التسعينيات، أولهما سقوط الاتحاد السوفييتي، وسيادة العولمة الأميركية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية التي أتاحت اتفاقية تحرير الخدمات، وكذلك انطلاق ثورة المعلومات والاتصالات، التي كانت أبرز معالم العولمة الاقتصادية.

أما التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2018، فكشف أن نسبة مساهمة قطاع الخدمات عربياً بلغت 52% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017، بقيمة 1.28 تريليون دولار، من إجمالي الناتج المحلي البالغ 2.47 تريليون دولار لنفس العام.
لكن يلاحظ من خلال البيانات التفصيلية التي نشرها التقرير أن قطاع الخدمات العربي لم يشهد تطورًا ملحوظًا يغير من بنيته التقليدية، فمثلًا قطاع الخدمات الإنتاجية والذي حقق مساهمة قدرها 626 مليار دولار في 2017 ضم قطاعات التجارة والمطاعم والفنادق، وكذلك النقل والمواصلات والتخزين، والتمويل والتأمين والمصارف.

أما الخدمات الاجتماعية فساهم بـ 656 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي لنفس العام، وبما يزيد بنحو 30 مليار دولار عن قطاع الخدمات الإنتاجية، حيث ضم قطاع الخدمات الاجتماعية الإسكان والمرافق والتعليم والصحة، وباقي الخدمات الحكومية.

لكن ثورة الاتصالات والمعلومات أوجدت خدمات كثيرة ومتطورة سهلت على المجتمعات أمورًا كثيرة، من حيث الأوقات والأموال، لكن للأسف فإن واقع العرب في القطاع لا يختلف عن أدائه في القطاع الإنتاجي، من حيث الاعتماد على الخارج، أو الاقتصار فقط على تقديم التمويل.

ففي سوق إنتاج التكنولوجيا التي هي عصب سوق الخدمات، يتوارى العرب من حيث مساهمتهم في هذا المضمار، ويعتبر المجتمع العربي مستهلكًا للتكنولوجيا بشكل كبير، أو في أحسن الأحوال أن يكون شريكًا في التسويق، أو الحصول على توكيلات للخدمات الإلكترونية، كما هو الحال في كثير من الأمور، مثل خدمات "الكول سنتر"، أو "الخدمات البنكية عبر الإنترنت"، أو خدمات النقل الإلكترونية "أوبر وكريم"، أو تسهيلات التجارة الإلكترونية.
ومؤخرًا أعلن عن طرح منتظر في وادي السيليكون بأميركا لأسهم شركة أوبر، ويمنح الطرح مجموعة "سوفت بنك" اليابانية، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي أرباحًا مميزة، كونهما يمتلكان نسبة 16.3% من أسهم أوبر عبر "صندوق رؤية سوفت"، كما تمتلك السعودية عبر صندوقها السيادي 5.3% من الأسهم.

ويعتبر هذا الخبر مثالًا صارخًا للمشاركة العربية في الخدمات الإلكترونية، إذ يقتصر الدور العربي على التمويل، أما إنتاج التكنولوجيا التي تمت من خلالها خدمات "أوبر" وغيرها فهي ما زالت حكرًا على أميركا والغرب.

معوقات المشاركة العربية

هناك معوقات عدة لمشاركة العرب في مساهمات قطاع الخدمات، سواء على المستوى المحلي والإقليمي، أو العالمي، من تلك المعوقات أن الأمر يتطلب أموالًا طائلة، ولا يتوفر التمويل إلا في دول الفوائض النفطية، وهي الخليج وليبيا والعراق والجزائر، بينما باقي الدول تعاني من فقر مالي.

وحتى دول الفوائض النفطية، تجد ما يصرفها عن الاستثمار في إنتاج التكنولوجيا، للدور الجديد الذي تقوم به من توظيف المال السياسي في الصراعات الإقليمية، أو دخول بعض الدول النفطية في حروب أهلية كما هو الحال في ليبيا والعراق، أو الصراع الإقليمي الذي تعيشه السعودية مع إيران، أو دخول التحالف الخليجي بقيادة السعودية والإمارات في حرب اليمن منذ 4 سنوات دون حسم، استنزفت الكثير من مواردها، ما دفعها للاستدانة وطرح سندات دولية، أو معاناتها مع عجز الموازنات العامة.
وليس بجديد أن نقول إن استثمارات الدول النفطية، خاصة في منطقة الخليج، لا تُقبل على الاستثمارات الإنتاجية في الخدمات التكنولوجيا بشكل خاص أو الخدمات بشكل عام، فالمراقب لصفقاتها الاستثمارية في قطاع الخدمات، يلحظ أنها تتجه نحو الاستحواذ على مشروعات قائمة، أو شراء حصص ملكية في الشركات القائمة.

وكما أشرنا إلى مثال مشاركة الصندوق السيادي السعودي في شراء حصة من "أوبر" فإن العديد من الأخبار تحمل إلينا توجه بعض الدول النفطية لشراء نوادٍ رياضية، أو منشآت ترفيهية وسياحية، أو حصص كبيرة من شركات الاتصالات في العديد من الدول، أو شراء حصص من البنوك والمؤسسات المالية القائمة.

ولا تتبنى الاستثمارات الخليجية بشكل عام إنشاء مؤسسات جديدة يمكن أن تساهم في قطاع الخدمات بشكل واضح، سواء كانت هذه الخدمات تعتمد على التكنولوجيا، أو في القطاعات التقليدية، لكن استراتيجيتها الثابتة هي الاستحواذ أو المشاركة، مخافة المخاطرة، ورغبة في تحقيق أرباح منذ اللحظة الأولى لوجودها في هذه المشروعات.

ومن الأسباب الرئيسة في تراجع المشاركة العربية في إنتاج التكنولوجيا الخاصة بقطاع الخدمات وغيره، تراجع الاهتمام بالتعليم، وضعف مستويات خريجيه، وتخصيص موازنات متواضعة للبحث العلمي، تقتصر في معظمها على الرواتب والأجور، مما سهل خروج العقول العربية للخارج، للبحث عن موازنات لتمويل مشروعاتهم البحثية، التي يمكن أن يكون لها مردود تجاري واقتصادي.

ضرورة التعاون

مقومات التعاون العربي يتم تكرارها منذ ما يزيد عن سبعة عقود، وهي توافر الإمكانات الطبيعية والبشرية والمالية، وكل ما يحتاجه الأمر هو المزج الصحيح بين هذه الموارد لخروج منتج عربي، يستهدف بالأساس احتياجات دول المنطقة، في مجال استراتيجي مثل توطين وإنتاج التكنولوجيا، ثم تصديرها باعتبارها مصدرًا كبيرًا للقيمة المضافة، وبابًا واسعًا للتنوع الاقتصادي الذي تبحث عنه دول الخليج.
ومن اليسير أن تتبنى الدول العربية ذات الفوائض المالية محاضن لإنتاج التكنولوجيا في مجال الخدمات، وهو مجال خصب يساهم فيه أبناء بعض الدول العربية، ويبرزون من خلال العمل بشركات أميركية وأوروبية، فماذا لو تم استيعاب هذه العقول لإخراج منتج عربي؟

لكنها العقلية التجارية، التي يغيب عنها المشروع التنموي العربي، ولا تنظر إلا تحت أقدامها لتحقيق الربح السريع، بغض النظر عن كونه مجرد ريع لإنتاج الآخرين، وليس من جهد أصحاب الأموال.

إن الأموال التي تخرج سنويًا من العالم العربي نظير الخدمات الإلكترونية، أو غيرها من باقي الخدمات، كفيلة بأن ترسل رسائل لا حصر لها لأصحاب الأموال ومتخذي القرار في الدول العربية، لكي يعيدوا النظر في مشروعات إنتاج تكنولوجيا الخدمات، ولا يقف الأمر عند المتطلبات المالية فقط، بل هناك اعتبارات تتعلق بالأمن القومي العربي.

ويكفي أن إسرائيل أرسلت منذ أيام أولى مركباتها الفضائية، وإن كانت فشلت تجربتها، إلا أنها ستنجح بلا شك في المرات المقبلة، ولكن ماذا قدم العرب لأنفسهم، بل ماذا قدموا للعالم؟
المساهمون