مأساة جديدة يعيشها مهاجرون حالمون بـ"الجنة الأوروبية" عند حدود كرواتيا. فالأخيرة العضو في الاتحاد الأوروبي تمنع دخولهم إليها وتستخدم العنف معهم، لتبقى مأساتهم على أرض البوسنة والهرسك
يزداد وضع المهاجرين في شمال غرب جمهورية البوسنة والهرسك، تحديداً في مدينة فيليكا كلادوسا، على الحدود مع كرواتيا، تأزماً وتعقيداً منذ 24 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. فبعد سنوات من توقف "مسار البلقان" الذي شكل أحد أهم مسارات تدفق المهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي، يتشكل اليوم مسار البوسنة باتجاه جارتها العضو في الاتحاد الأوروبي، كرواتيا، على أمل أن تسمح زغرب للآلاف منهم بالمرور شمالاً، إلى سلوفينيا. يأتي كلّ هذا وسط سجال شمالي أوروبي ما إذا كانت أوروبا أمام موجة جديدة شبيهة بتلك التي جرت في المجر مع نهاية صيف 2015.
وفقاً لأرقام رسمية وأممية فإنّ البوسنة والهرسك اليوم، تضم نحو 20 ألف مهاجر يسعون لعبور الحدود نحو الاتحاد الأوروبي، وهو الرقم الذي يُخشى من تزايده بفعل تكدس الناس وعدم السماح لهم بالخروج، علماً أنّ في البوسنة والهرسك 9 مراكز لطالبي اللجوء. ففي دول مثل النمسا، التي شكلت معبراً رئيساً من شرق ووسط أوروبا نحو ألمانيا واسكندنافيا، تقف حكومة اليمين واليمين المتشدد، بزعامة مستشارها الشاب سيباستيان كورتز، موقفاً متصلباً رافضاً استقبال مهاجرين، أو السماح لهم بالمرور عبر أراضيها.
تصلب نمساوي
على مسافة نحو 250 كيلومتراً من حدود النمسا الجنوبية، عبر سلوفينيا وكرواتيا، وفي شمال غرب البوسنة، يتجمع "ما لا يقل عن 20 ألف مهاجر" وفقاً لأرقام ورقة رسمية نمساوية رسمية تحذر ساسة أوروبا، معتبرة أنّ "95 في المائة من هؤلاء المهاجرين الراغبين باقتحام الحدود الكرواتية هم من الرجال والشباب، وأغلبهم مسلحون بالسكاكين، وجرى حتى الآن طعن أحد رجال الحدود".
فيينا تعتبر أيضاً أنّ "على الاتحاد الأوروبي أن يعي أهمية حدوده الخارجية". وفي هذا الاتجاه تذهب وزارة الداخلية النمساوية، للتشديد على سياستها الصارمة، خصوصاً بعد مشاهد صدامات 24 أكتوبر/ تشرين الأول بين مهاجرين وحرس حدود كرواتيين، بالقول إنّه "على عكس ما كان عليه تدفق المهاجرين في 2015 فإنّنا اليوم لسنا أمام موجة من العائلات، فليس بينهم نساء تقريباً". وفقاً للصحيفة النمساوية "كرونن" فإن الورقة الرسمية تذكر أن "أغلبية هؤلاء المهاجرين المتجمعين لاقتحام حدود الاتحاد الأوروبي هم بشكل أساسي من باكستان وإيران والجزائر والمغرب، وهؤلاء مصرون على التقدم للوصول إلى ألمانيا واسكندنافيا بعدما باتت صورة النمسا كمكان لجوء سلبية وليست جذابة". وعادت وزارة الداخلية النمساوية رسمياً لتأكيد ما ورد في الورقة الموجهة إلى بروكسل.
تحذير فيينا لاقى صدى في ظل وضع ألماني مأزوم، مع تقدم لليمين المتشدد ومأزق داخلي للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وتحالفها المسيحي، أو في دول اسكندنافية تأخذ ما يصدر من فيينا على محمل الجد. فإلى جانب أنّ قضية الهجرة لعبت دوراً في تقدم اليمين المتشدد في انتخابات السويد قبل شهرين، فإنّ الأمر عينه بالنسبة لليمين المتشدد في كوبنهاغن وأوسلو بحسب استطلاعات الرأي.
أوضاع سيئة
منظمات إنسانية عديدة، من بينها مجالس اللجوء في النرويج والدنمارك، تعبر عن مخاوفها من أوضاع هؤلاء في ظل غياب رعاية مع انخفاض درجات الحرارة. ولا يمكن الركون بالطبع إلى ما تقوله النمسا عن غياب أيّ امرأة تقريباً، إذ يمكن للمراقب عند حدود كرواتيا أن يشاهد النساء والأطفال في خيام صيفية خفيفة وهم يناشدون فتح الحدود لهم، مع غياب تام للرعاية الحقيقية لهؤلاء، إن من الناحية الصحية أو النظافة العامة والحمامات في المنطقة.
بالنسبة لمنظمة "أطباء بلا حدود" التي انضمت أخيراً إلى المنظمات المحذرة من الأوضاع الخطرة التي يعيشها العالقون في شمال البوسنة، فإنّه "مع انخفاض درجات الحرارة تصبح الأوضاع أكثر خطورة وتوتراً". وباستشعار هؤلاء المهاجرين خطورة الوضع، وإغلاق الحدود في وجههم، زادت التوترات. فالصدامات، عند محاولة اجتياز الحدود الكرواتية، المتزايدة يومياً، دفعت بالكرواتيين لإرسال قوات خاصة لمنعهم من اجتيازها، ما وسع الشكاوى من هذه القوات وعنفها. بعض هؤلاء المهاجرين دخل أيضاً في إضراب عن الطعام، وهم يناشدون الاتحاد الأوروبي فتح الحدود لهم، فيما الحكومة الكرواتية، وبضغط من النمسا ترفض السماح لهم المرور، فهؤلاء في أغلبهم لا يودون البقاء في كرواتيا أو جارتها سلوفينيا بل الاستمرار نحو النمسا وألمانيا وغيرهما.
لم يخفِ رئيس الوزراء الكرواتي أندريه بلينكوفيتش، على وقع الاشتباكات في أواخر الشهر الماضي، وتعرض حرس الحدود للرشق بالحجارة، تأكيده أنّ "قوات الشرطة وحرس الحدود ستحمي الحدود، مع احترام كامل للقانون المحلي والإنساني الدولي".
شهادات
الأزمة الجديدة التي تشهد تكدس آلاف المهاجرين من مختلف الجنسيات، وإن كان أقل من تكدس عشرات الآلاف في بودابست قبل ثلاثة أعوام، إذ لم تسمح لهم حكومة فيكتور أوربان المتشددة بالمرور عبر أراضيها نحو النمسا، تثير القلق بين بعض المهاجرين العرب ممن تحدثت إليهم "العربي الجديد" عبر الحدود بين كرواتيا والبوسنة والهرسك، إذ يكشفون عن مآسٍ "بعيدة عن الأضواء" كما يصف بعضهم.
ليس فقط أنّ الشتاء القاسي في هذه المنطقة الأوروبية هو الحقيقة الثابتة والمقلقة في تكدس المهاجرين منذ سبتمبر/ أيلول الماضي في المناطق البوسنية القريبة، فبالرغم من محاولات السكان المحليين وبعض منظمات غير حكومية، تقديم يد العون للعالقين في البوسنة، فإنّ زيادة أعداد هؤلاء بنسبة تفوق 150 في المائة عما كانوا عليه في العام الماضي تشير إلى إصرار الكراوتيين منع العبور باتجاه سلوفينيا ثم النمسا بكلّ الوسائل. ويبدو واضحاً، مما يرويه المهاجرون وبعض البوسنيين والمتطوعين الأجانب، أنّ سياسة الضرب بيد من حديد هي التي تمارس على الحدود. فإلى جانب تزويد قوات حرس الحدود بأحدث التقنيات خصوصاً المراقبة الجوية لمنع دخول المهاجرين، اشتكى عشرات المقيمين في خيم بلاستيكية منذ أشهر من "عنف الشرطة الكرواتية". وبعضهم يقول إنّه اضطر لمراجعة المستشفيات والعيادات المحلية للعلاج من الكدمات "بعد التعرض للضرب بعصي حديدية من دون رحمة". ما يجري من محاولات منع هو على الجانب الحدودي الأقرب لانتشار الكرواتيين، وليس على الجانب البوسني حيث يتعاطف بعض السكان مع المهاجرين، وبعضهم اختبر بنفسه التهجير في سنوات حرب البوسنة والهرسك بداية تسعينيات القرن الماضي.
الشرطة الكرواتية تنفي "استعمال القوة إلاّ في حالة الدفاع عن النفس ومحاولة البعض اجتياز الحدود بالقوة أو الرشق بالحجارة"، بحسب ما يؤكد رئيس شرطة الحدود في غفوزد، ميشو رابكيش. وفي محاولة لتخفيف توتر الواقع الحدودي يقول رابكيش لمجموعة من المهاجرين مقابل رجاله المتأهبين "يمكنكم التقدم بطلب هجرة على الحدود، وهذا أمر متاح ويمكن عندها نقلكم لدراسة الطلبات بشكل قانوني".
بعض هؤلاء العالقين منذ ثلاثة أشهر يذكرون لـ"العربي الجديد" أنّهم يرفضون "التقدم باللجوء في كرواتيا لأنّ الوجهة هي ألمانيا للالتحاق بالأسرة، ويصعب أن أفعل ذلك إن أخذوا البصمة وسجلوني طالب لجوء" بحسب ما يذكر هشام السيد، الآتي من سورية عبر رحلة طويلة للوصول إلى برلين. وبعضهم الآخر، مثل ميساء وطفليها، الذين يعيشون في خيمة صغيرة جداً، انقطعت بهم السبل "فزوجي استطاع الدخول مع ابني الثالث، وعلقنا هنا منذ شهر ونصف الشهر، لا هو قادر على الرجوع ولا نحن قادرون على العبور".
يؤكد شهود في المنطقة، ومن بينهم بوسنيون متعاطفون مع اللاجئين، وخصوصا الآتين من دول عربية ومن الأسر التي تحمل معها أطفالها، أن "الشرطة الكرواتية فعلا تستعمل العنف ضد الجميع، ولا تميز بين سيدة أو رجل، وهم يستخدمون أحياناً بشكل عشوائي رذاذ الفلفل الحار من دون اعتبار لصغار ونساء"، بحسب ما يذكر لـ"العربي الجديد" حارث كيفانش، الذي كان في الأصل مهاجراً لسنوات في الدنمارك قبل أن يعود إلى بلده، وهو يساعد اليوم في الترجمة لبعض المهاجرين من الإنكليزية إلى البوسنية والكرواتية وبعض العربية التي تعلمها في كوبنهاغن. ويذكر حارث لـ"العربي الجديد" أنّ "الوضع مأساوي ويعيش هؤلاء العالقون أوضاعاً مخيفة، وينتشر بينهم خوف كبير وباتوا حذرين جداً نتيجة ازدهار سوق التهريب وفي الوقت نفسه الخوف من إجبارهم على أن يصبحوا مسجلين في البوسنة أو أن يجري توقيفهم بعد اجتياز الحدود إلى كرواتيا، ما يحرمهم من الوصول إلى وجهتهم".
مساعدات
خلال الأسبوعين الأخيرين، مع تفاقم الوضع، بدأت بعض المنظمات الإنسانية تتدفق إلى المنطقة، وأكثر الأعضاء الآتين هم من المتطوعين الشباب الذين قطعوا مسافات طويلة بعدما انتشرت أخبار هذه المنطقة على وسائل التواصل المهتمة بأوضاع اللاجئين والمهاجرين في أوروبا. أحد المتطوعين الدنماركيين، مورتن، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "عنف الشرطة الكرواتية ليس فيه تجنٍّ، فهذه الشرطة منذ التسعينيات جرت عسكرتها أثناء الحرب، وبالتالي وبعد خمس سنوات من عضوية الاتحاد الأوروبي ما زالت تعمل وفق عقلية المليشيات وبروح قومية متشددة باعتبار من يحاولون اجتياز الحدود أعداء، لذلك يمارسون عنفاً كبيراً بحق المهاجرين في المنطقة". زميل مورتن، البريطاني سيمون كامبيلا، يؤكد من ناحيته، عبر اتصال هاتفي، أنّ "العنف منهجي، لقد أرسلوا شرطة وقوات مسلحة من كلّ زوايا البلاد لنشرهم على الحدود".
حتى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في المنطقة الحدودية تذكر أنّها بعد الاعتداءات حولت المعتدى عليهم إلى مستشفى بوسني في المنطقة "وجرى تسجيل وتوثيق هذه الاعتداءات الجسدية". الشرطة الكرواتية ليس لديها ما تقول بخصوص الادعاءات غير حمايتها الحدود "وفقاً للقوانين الكرواتية والأوروبية المعمول بها لحماية الحدود". وبحسب موقع "إنفو ميغرانتس" فإنّ "الشرطة الكرواتية تستخدم العنف بحق المهاجرين في محاولة منعهم اجتياز الحدود".
من جهتها، أكدت وزيرة حقوق الإنسان واللجوء البوسنية، سميحة بوروفاك، أثناء زيارتها المنطقة في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري أنّ بلدها يحتضن فعلاً "اكثر من 20 ألف مهاجر". بوروفاك وعلى عكس ادعاء ساسة اليمين المتشدد في فيينا، تقول إنّ من بين الآتين إلى البوسنة والهرسك أكثر من 400 أسرة و500 طفل/ قاصر وأكثر من 60 قاصراً بلا مرافقين.
يسعى الاتحاد الأوروبي، بعدما تفاقم الوضع، إلى تقديم مساعدات مالية لمدينة فيليكا كلادوسا لتحسين أوضاع المهاجرين الذين اختاروا التخييم عند معبر ماليفاتس لنقلهم إلى مركز استقبال. ويحاول ساسة بروكسل تقديم أكثر من 8 ملايين يورو "إنشاء مراكز استقبال بالتعاون مع منظمة الهجرة الدولية، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتقديم العلاج والرعاية الصحية، خصوصاً مع كثرة الأشخاص الذين يحملون التهابات كبد معدية" بحسب بوروفاك.