11 سبتمبر 2024
مساجد ومدارس وانتخابات جزائرية
أثارت دعوة وزيرة التربية والتعليم الجزائرية، نورية بن غبريط، المدارس إلى تقديم دروس توعية للطلبة بضرورة أداء الواجب الانتخابي، جدلا واسعا، تدخلت فيه نقابات التربية والجمعيات المدنية والمهتمون بالشأن السياسي. وجاء الجدل صاخبا، لأن الوزيرة استغلت فترة ما قبل الانتخابات المحلية (مجالس البلديات ومجالس الولايات، التي انتظمت أمس 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، لتقدم على إصدار تعليماتها هذه، والتي اعتبرها بعضهم سياسية بامتياز.
جادل أهل الوزارة والمقربون من أحزاب موالاة الحكم بأن التعليمة الوزارية المعنية تدخل ضمن توصيات اليونسكو والأمم المتحدة، والإعلان العام لحقوق الطفل، التي تنص على تلقين الطلبة الصغار (قبل سن 10 أعوام) كيفية الانتخابات، وطرق اختيار ممثليهم في المدارس بشفافية وحرية، وذلك تمرينا لهم على المشاركة مستقبلا في أداء واجباتهم الانتخابية في المجتمع.
تبدو الأمور منطقية نظريا، وتدخل ضمن دروس الثقافة العامة، والثقافة الاجتماعية التي تحرص الدول على تلقينها للطلبة، لتدريبهم على الفعل الانتخابي. ولكن تزامن التعليمة الوزارية مع الانتخابات المحلية أربك المشهد، وجعله يتجلى أداء سورياليا، لا يحدث إلا في البلاد التي تستعمل الانتخابات مظهرا شكليا للديمقراطية، وتستغني عن الجوهر، وذلك في ممارسةٍ أصبحت أشبه بدراما مسرحية.
تقود وزارة الداخلية والجماعات المحلية حملةً لحث المواطنين على المشاركة في الانتخابات
المحلية، من خلال تنظيم عدة تظاهرات ثقافية وفنية، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، يجوب ممثلو الأحزاب أصقاع الجزائر جلها. كل حزب بما توفر له من مال وعلاقات، يسعى حثيثا إلى اختيار قوائمه الانتخابية، ويحرص على استمالة الناس بما يقدمونه من وعودٍ في التنمية المحلية، أثبتت تجارب الانتخابات السابقة أنها ستذوب مع آخر شعاعٍ لشمس يوم الاقتراع.
أما وزارة الداخلية فلا يشغلها إلا هاجسٌ يكاد يكون وحيدا، تخوفها من العزوف الانتخابي الذي ميّز الانتخابات البرلمانية والرئاسية في السنوات العشر الأخيرة، وجعل مصداقيتها تقترب من أدنى المستويات، وتنحدر مع كل موعد انتخابي في متتاليةٍ ليست مستغربة. ذلك أن علماء الاجتماع والمتابعين للشأن السياسي في الجزائر أرجعوا الأمر إلى خيبات أملٍ متراكمة، شهدتها الحياة السياسية في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، مردّها رداءة العمل الحزبي الذي سيطر عليه حزبا جبهة التحرير الوطني والتجمع الديمقراطي، بمساعدة السلطات والجماعات المحلية التي وفرت لهما جميع إمكانات النجاح الانتخابي، إما بدعم سياسي فوقي أو بتواطؤ من المسيّرين المحليين الذين وجدوا ضالتهم في أسماء ألفوا وجودها في المشهد السياسي المحلي، وتماهوا معها في تقسيم الريع أو النفوذ، من دون وجود أي رؤية سياسية أو تنموية.
ليس حزبا جبهة التحرير والتجمع الديموقراطي وحدهما مسؤولين عن تردّي الأداء السياسي في الجزائر، فعلى الأحزاب الأخرى وزر من تلك المسؤولية، فكلها وإن ادعت الإيمان باللعبة الانتخابية، فإنها لا تدخلها إلا بحثا عن جزء من كعكة السلطة. ذلك أن معظم تلك الأحزاب يدخل في سبات عميق، حتى إذا ما جاء موعد الانتخابات سارع إلى تلبية نداء السلطات
للمشاركة فيما تصفه "العرس الانتخابي". هدف السلطة من ذلك رص صفوف الموالاة، وتسويق نفسها خارجيا أنها تنظم انتخاباتٍ يتوجه الناس فيها للإدلاء بأصواتهم. التفاصيل غير مهمة، وكذلك النتائج فهي محسومة سلفا، ما دامت الأحزاب تتخذ خطة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في تسيير البلاد برامج لها، بل وتتنافس في الانتماء إلى نصوصها، وتُزايد على بعضها في تقديم فروض الطاعة والولاء، من دون تقديم أي بديل سياسي أو تنموي ممكن، إلا من ثلةٍ قليلةٍ من الأحزاب التي تُحسب على المعارضة الراديكالية المغضوب عليها، والتي كثيرا ما توصد أبواب الإدارات والإعلام في وجهها.
ليست وزارة التربية وحدها من طلبت من المعلمين تقديم دروسٍ في كيفية إجراء الانتخابات، والتي تزامنت مع موعد الانتخابات المحلية. دخلت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف هي الأخرى على الخط، إذ طلبت من أئمة المساجد التطرّق في خطبة الجمعة إلى موضوع الانتخابات المحلية، وتحفيز المصلين على أداء واجبهم الانتخابي. وقالت إن الاقتراع أمانة على كل ناخب.
يُذكِّر هذا الكلام بما قالته جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة في الحملة الانتخابية البرلمانية لسنة 1991، إذ استعملت المساجد هي أيضا لتسويق مرشحيها، وكان شعارها يومذاك "صوتك أمانة ستُحاسب عليه يوم القيام". ولأن الأمانة بالأمانة تذكر، لا يختلف قول وزارة الشؤون الدينية حاليا، في مضمونه، عما قالته جبهة الإنقاذ الإسلامية منذ 27 سنة. فكيف يُمكن الثقة في دعوات السلطة إلى إبعاد المساجد والمدارس عن السياسة، وهي تمنعها على المعارضة، ولا تتورّع هي في استغلالها حينما تحين فرصة الانتخابات. لا يستقيم الأمر بازدواجية المعايير، فإما يستغل الجميع منابر المساجد، وليس أشطر من الأحزاب الإسلامية في ذلك، أو تُبعد السياسة عن المنابر، وعن صفوف المدارس، وذلك أسلم للجميع. فالتجربة الجزائرية في التسعينيات أثبتت أن في السياسة من فنون المراوغة والدهاء والمساومة، ما يدعونا إلى إبعادها عن منابر المساجد، والشوارع، فتلك فضاءاتٌ مفتوحة، منفلتة العقال، ومن الصعوبة التحكّم في الدعوات السياسية، إن هي غادرت تلك المساحات إلى أماكن مجهولة لا تُحمد عقباها.
جادل أهل الوزارة والمقربون من أحزاب موالاة الحكم بأن التعليمة الوزارية المعنية تدخل ضمن توصيات اليونسكو والأمم المتحدة، والإعلان العام لحقوق الطفل، التي تنص على تلقين الطلبة الصغار (قبل سن 10 أعوام) كيفية الانتخابات، وطرق اختيار ممثليهم في المدارس بشفافية وحرية، وذلك تمرينا لهم على المشاركة مستقبلا في أداء واجباتهم الانتخابية في المجتمع.
تبدو الأمور منطقية نظريا، وتدخل ضمن دروس الثقافة العامة، والثقافة الاجتماعية التي تحرص الدول على تلقينها للطلبة، لتدريبهم على الفعل الانتخابي. ولكن تزامن التعليمة الوزارية مع الانتخابات المحلية أربك المشهد، وجعله يتجلى أداء سورياليا، لا يحدث إلا في البلاد التي تستعمل الانتخابات مظهرا شكليا للديمقراطية، وتستغني عن الجوهر، وذلك في ممارسةٍ أصبحت أشبه بدراما مسرحية.
تقود وزارة الداخلية والجماعات المحلية حملةً لحث المواطنين على المشاركة في الانتخابات
أما وزارة الداخلية فلا يشغلها إلا هاجسٌ يكاد يكون وحيدا، تخوفها من العزوف الانتخابي الذي ميّز الانتخابات البرلمانية والرئاسية في السنوات العشر الأخيرة، وجعل مصداقيتها تقترب من أدنى المستويات، وتنحدر مع كل موعد انتخابي في متتاليةٍ ليست مستغربة. ذلك أن علماء الاجتماع والمتابعين للشأن السياسي في الجزائر أرجعوا الأمر إلى خيبات أملٍ متراكمة، شهدتها الحياة السياسية في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، مردّها رداءة العمل الحزبي الذي سيطر عليه حزبا جبهة التحرير الوطني والتجمع الديمقراطي، بمساعدة السلطات والجماعات المحلية التي وفرت لهما جميع إمكانات النجاح الانتخابي، إما بدعم سياسي فوقي أو بتواطؤ من المسيّرين المحليين الذين وجدوا ضالتهم في أسماء ألفوا وجودها في المشهد السياسي المحلي، وتماهوا معها في تقسيم الريع أو النفوذ، من دون وجود أي رؤية سياسية أو تنموية.
ليس حزبا جبهة التحرير والتجمع الديموقراطي وحدهما مسؤولين عن تردّي الأداء السياسي في الجزائر، فعلى الأحزاب الأخرى وزر من تلك المسؤولية، فكلها وإن ادعت الإيمان باللعبة الانتخابية، فإنها لا تدخلها إلا بحثا عن جزء من كعكة السلطة. ذلك أن معظم تلك الأحزاب يدخل في سبات عميق، حتى إذا ما جاء موعد الانتخابات سارع إلى تلبية نداء السلطات
ليست وزارة التربية وحدها من طلبت من المعلمين تقديم دروسٍ في كيفية إجراء الانتخابات، والتي تزامنت مع موعد الانتخابات المحلية. دخلت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف هي الأخرى على الخط، إذ طلبت من أئمة المساجد التطرّق في خطبة الجمعة إلى موضوع الانتخابات المحلية، وتحفيز المصلين على أداء واجبهم الانتخابي. وقالت إن الاقتراع أمانة على كل ناخب.
يُذكِّر هذا الكلام بما قالته جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة في الحملة الانتخابية البرلمانية لسنة 1991، إذ استعملت المساجد هي أيضا لتسويق مرشحيها، وكان شعارها يومذاك "صوتك أمانة ستُحاسب عليه يوم القيام". ولأن الأمانة بالأمانة تذكر، لا يختلف قول وزارة الشؤون الدينية حاليا، في مضمونه، عما قالته جبهة الإنقاذ الإسلامية منذ 27 سنة. فكيف يُمكن الثقة في دعوات السلطة إلى إبعاد المساجد والمدارس عن السياسة، وهي تمنعها على المعارضة، ولا تتورّع هي في استغلالها حينما تحين فرصة الانتخابات. لا يستقيم الأمر بازدواجية المعايير، فإما يستغل الجميع منابر المساجد، وليس أشطر من الأحزاب الإسلامية في ذلك، أو تُبعد السياسة عن المنابر، وعن صفوف المدارس، وذلك أسلم للجميع. فالتجربة الجزائرية في التسعينيات أثبتت أن في السياسة من فنون المراوغة والدهاء والمساومة، ما يدعونا إلى إبعادها عن منابر المساجد، والشوارع، فتلك فضاءاتٌ مفتوحة، منفلتة العقال، ومن الصعوبة التحكّم في الدعوات السياسية، إن هي غادرت تلك المساحات إلى أماكن مجهولة لا تُحمد عقباها.