يتناول الفيلم قصّة فتاة عزباء تكتشف، بشكل متأخّر، أنّها حامل (ما يصطلح عليه طبّيًا "إنكار الحمل")، فتجد نفسها في مواجهة مستعجلة وغير متكافئة مع ثقل التقاليد وظلم القوانين الرجعية. هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام أفخاخ الفيلم ـ الأطروحة، الذي أسقط أفلامًا مغربية كثيرة، آخرها "غزية" (2018) لنبيل عيوش، خصوصًا تلك التي تنبري لطرح موغل في الجانب الاجتماعي.
عكس هذا، جاء "صوفيا" مفعمًا بالتعقيد وحافلاً بالمفاجآت التي تتمخّض عن معالجة ذكيّة، قوامها شخصيات حقيقية (لا مجرّد دمى ناطقة باسم المخرج)، وسرد لم يمنع اقتصاده من سبر أغوار التّحكم في السلطة بين مختلف طبقات المجتمع المغربي: البورجوازية الجديدة والطبقة الوسطى والفئة المهمّشة التي ترفض بنمبارك، وفق خيار شجاع، تصنيفها كمجرّد ضحية، من دون أن تغفل ميكانيزمات الهيمنة والتفقير التي تنتهجها المنظومة بغية تركيع المطحونين.
لكن الحسنة الكبرى للفيلم (يُعرض حاليًا في الصالات المغربية) كامنةٌ في تفادي ابتذال المقاربة النسوية الأوّلية التي تضرب معركة حقوق المرأة والسينما بحجر واحد، حين تنزع عن الشخصيات النسوية ثوب آدميّتها.
ـ "صوفيا" مبنيٌّ على قصّة حقيقية لامرأة شابّة قريبة منّي. أمضيتُ عامًا ونصف العام في الكتابة في المغرب كي أتمكّن من لقاء قابلات وأطباء وأمهات عازبات، والتحدّث معه في هذه المسألة. شيئًا فشيئًا، أصبح الفيلم فسيفساء قصص حقيقية عديدة، يُشاركها معي هؤلاء الأشخاص. لكن، ما يهمّني هو سيناريو يمكن أن يكشف ـ من خلال قصّة صوفيا ـ نظام اشتغال مجتمع برمّته. هكذا يبدأ الفيلم تدريجيًا في التشكّل، موازاة مع حكاية صوفيا، ويرسم صورة للمغرب الحالي عبر علاقات السلطة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
أنا حريصةٌ على تشييد الحكي كي يبدو كلعبة شطرنج، حيث تُحرِّك كلّ عائلة بيادقها لـ"إنقاذ الأثاث"، أو "جني أرباح" من مأساة صوفيا.
(*) إحدى أبرز نقاط قوّة "صوفيا" هو انطواؤه على حمولة اجتماعية قويّة من دون الوقوع في فخّ "فيلم رسالة" كحال أفلام مغربية عديدة للأسف. هل كنتِ مهمومة بهذا الجانب أثناء اشتغالك على الفيلم؟
ـ ما يهمّني أولاً هو أن أروي قصّةً عبر شخصيات قويّة. عند ذهابي إلى السينما، أختار ما يجعلني أشاهد قصّة. أردتُ أنّ أصنع من شخصية صوفيا فيلمًا شعبيًا يحثّ الجمهور المغربي على الذهاب إلى السينما. هذا لا يمنع وجود "وجهة نظر" لي كمؤلّفة: كيف تشتغل هيمنة القويّ على الضعيف؟ ما الذي يجعل نظرة الغرب إلى المغرب والعالم العربي تفتقر إلى التعقيد؟ إذا تجنّب "صوفيا" الوقوع في فخ الفيلم ـ الأطروحة، فهذا عائدٌ ربما إلى أنّ القصة مقنعة، وإلى أنّي لم أقدّم أية إجابات عن أسئلة يُثيرها الفيلم، المُصاغ كبيان تقصٍّ.
(*) اقتصاد السرد هو أيضًا قوّة رئيسية للفيلم. كيف حصلتِ على هذا التأثير: في كتابة السيناريو، أو في المونتاج؟ ما هو المعيار الحاسم لتحديد ما تمّ الاحتفاظ به وما تمّ حذفه؟
ـ تَقرَّر كل شيء منذ كتابة الفيلم. تنبغي معرفة أنّ "صوفيا"، في البداية، فيلمٌ قصير. ربّما يأتي اقتصاد القصّة من هنا. بعد ذلك، ومن وجهة نظر "سيناريستية"، يبدأ الفيلم بـ"سباق ضدّ الزّمن" لصوفيا 24 ساعة للعثور على والد الجنين. نتيجة هذا، هناك حالة استعجال تعبر السرد وتفرض إيقاعها الخاص.
بالإضافة إلى ذلك، أرغبُ في سيناريو جاف. لكلّ عنصر وظيفة معيّنة. في "صوفيا"، إذا أزلتُ لقطة أو حوارًا واحدًا، يهوي كلّ شيء.
(*) هل تغيّر السيناريو كثيرًا أثناء التصوير؟ إذا نعم، فبأيّة طريقة؟
ـ أثناء التصوير، الأشياء التي تغيّرت هي ديكورات مَشَاهد معيّنة لم أتمكّن من تحضيرها لأسباب متعلّقة بالميزانية. بالنّسبة إلى الباقي، كلّ شيء ظلّ هو نفسه. نظرًا إلى أن الممثّلين ملتصقون بالكيفية المكتوبة بها أدوارهم، لم يتحرّك أيّ شيء في "بلاتوه" التصوير.
السيناريو مكتوبٌ بطريقة مفصّلة ومحبوكة إلى درجة أننا لم نُحدث أيّ تغيير على الهيكل الأصلي أثناء المونتاج. البنية السردية للفيلم هي نفسها الموجودة في النص. قمنا فقط بتقليم بعض الحوارات.
(*) كيف كان اللقاء مع مها علمي (مؤدّية دور صوفيا)؟
ـ أدّت مها دورًا صغيرًا في فيلم شاهدته في بداية كتابة "صوفيا". لعام ونصف العام، أثناء كتابتي السيناريو، ظلّ يسكنني وجهها وكلّ ما تجسده. قابلتها في الدار البيضاء لإقناعها بقبول الدور، فهي ليست ممثلة بل طالبة في مدرسة التجارة والتسويق. أجريت اختبارات معها، وكانت مثالية. قرّرت اختيارها فورًا من دون اختبار شابات أخريات. واضحٌ لي أنها صوفيا.
(*) سارة بيرلس إحدى المفاجآت الجميلة للفيلم. كيف قمتِ بإدارتها، خاصةً في مشهد قياس أزياء العرس في مواجهة لبنى أزابال؟
ـ كنتُ أبحث عن ممثّلين يعيشون في حياتهم ما هو قريب من شخصياتهم السينمائية. بالنسبة إلى سارة، النقطة الرئيسية لتوجيهاتي كامنةٌ في الطلب منها ألّا تلعب، وأن تشذِّب قدر الإمكان أي تعبير إضافي عن وجهها، وأن تجد اللّعب الأكثر طبيعية وبساطة. جسدها ومشيتها وصراحتها والسذاجة المرسومة على وجهها كافية، بالنسبة إليّ، كي تتجسّد شخصية لينا. مهمّ للغاية بالنسبة إليّ أن أنتبه جدًا إلى هذه الشخصية أكثر من الأخرى، لأنّي وددت أن أنقل عبرها جوهر فيلمي: انتقاد البورجوازية والنظرة الغربية إلى العالم العربي.
(*) السيناريو يتمحور حول لعبة ديناميكية من التأثيرات والتفاعلات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. هل تعتقدين أن الصراع الطبقي مدخلٌ ملائم لاستيعاب تعقيدات المجتمع المغربي؟
ـ ليس عبثًا أن يكون الصراع الطبقي موضوعًا رئيسيًا للفيلم. يبدو لي أن عدمَ المساواة الاجتماعية مصدرُ مرارة الشباب المغربيين وخيبة أملهم. ما يدفع الناس إلى الحنق هو عدم وجود رؤية للمستقبل والحصار من قبل منظومة تبقيك في وضعك الاجتماعي مهما فعلْتَ أو حاولْتَ. لا أدري ما إذا كان بوسعنا تفسير تعقيدات المجتمع المغربي بسبب عدم المساواة هذه، لكني أعتقد أنها مسألة مثيرة للاهتمام بما فيه الكفاية لأخذ الوقت الكافي للتفكير بها.
(*) هناك شعور بأنّ الشخصيات متمتّعة بسمكٍ درامي كبير، إلى حدّ أنها تصدم باختياراتها أحيانًا. هي ليست دمى تنطق بوجهة نظر المخرج، كما هو حال معظم الأفلام التي تمتلك حمولة اجتماعية عالية. هل هذا الجانب صعب المنال؟
ـ الشخصيات في هذا الفيلم ناطقة بأسمائها، كما قلتَ. تنوّع وجهات نظر الشخصيات، بحدّ ذاته، يصنع وجهة نظري الخاصّة. المغرب مجتمع معقّد تتحكم فيه منظومة تعمل كحجر رحى اجتماعية، تدفع الناس إلى اتّخاذ قرارات تكون أحيانًا غير سليمة أخلاقيًا.
كان عليّ وضع نفسي في صوفيا بقدر ما كنتُ في لينا أو عمر. صراحةً، لم يكن الأمر صعبًا، لأنّ الفئات الاجتماعية الـ3 موجودة في عائلتي. أعرف هذه الفئات كلّها وأحتكُّ بها منذ صغري. لم أواجه صعوبة في تبنّي الحالات النفسية المختلفة.
الأصعب و المحفوف بالمخاطر إلى حدّ ما هو أنّك عندما تصنع فيلمًا تترك المُشاهد يفكر في نفسه. يمكنه أحيانًا تفسير الأشياء عكس ما تقوله في فيلمك. مثلاً: يمكنه تفسير سلوك لينا باعتباره فكرة "غنيّ يُنقذ فقيرًا"، بينما العكس هو ما أحكيه، أي أقول كيف يهيمن الأثرياء على الفقراء. يمكنه أيضًا اعتبار شخصية صوفيا متلاعِبة، بينما الفكرة التي أقترحها هي الخروج من النسوية الأوّلية والتفكير في كيفية سحق النظام للنساء بدفعهن إلى اتّخاذ قرارات تغذّي النظام نفسه. أقول أيضًا إنّ التفكير في وضعية المرأة لا يمكن أن يتمّ من دون اقترانه بإعادة النظر في المجتمع بأسره، الذي يدفع النساء إلى التزام الصمت، والاقتصار على اللعب بالبطاقات التي تعطى لهنّ.