مروان نجّار: العمل التلفزيوني الأسلم ابتكارٌ لا تقليد

10 اغسطس 2020
يبدو نجّار غير قادر على التنصّل كلّياً من هواجسه الأساسية (فيسبوك)
+ الخط -

يكتب اللبناني مروان نجّار (1947) سيرته المهنيّة، المتضمّنة شيئاً من حياة شخصية واهتمامات ثقافية واشتغالات صحافية، جاعلاً نصّه مرآة وقائع ومسارات تتعلّق بالعمل التلفزيوني أساساً، وبيوميات العيش اللبناني في حربٍ أهلية، وفي لحظات سابقة على اندلاعها (13 إبريل/ نيسان 1975)، وبعض محطّاتٍ لاحقة على نهايتها المزعومة (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990).

في كتابه "حكايتي مع الشاشة" ("دار سائر المشرق"، بيروت، 2019)، تنكشف مسائل غير معروفة كثيراً لمُشاهدين، يتمتّع كثيرون منهم بنتاجات تختلف عن راهنٍ موغلٍ بأهوال الحرب، وسوء الإدارة، وقسوة الانشقاق الطائفي المذهبي، يصنعها (النتاجات) نجّار في "تلفزيون لبنان" أولاً، قبل تجارب مختلفة له في "المؤسّسة اللبنانية للإرسال"، وتعاون مهنيّ غير مُكتمل مع "راديو وتلفزيون العرب" (الشيخ كامل صالح ومحمد ياسين)، ومحاولة معطوبة للعمل مع "تلفزيون المستقبل" اللبناني، وتجربة التواصل مع "شركة O3 للإنتاج" (فادي إسماعيل).

الاختبار الأهمّ كامنٌ في "تلفزيون لبنان" زمن الحرب الأهلية اللبنانية، القادم إليه عبر اختبار صحافي يؤدّي ذات لحظة إلى مبنى التلفزيون وفضائه وعوالمه ومسالكه ومتاهاته (زيارة له غير متوقّعة إلى منزل هند أبي اللمع وأنطوان ريمي)؛ وأيضاً عشية اندلاعها، بانشقاقاتها الجمّة، المتأتية من صدامات بين طوائف ومذاهب وانتماءات، وتأثيرات هذا كلّه على مشاريع يجهد أصحابها في تنفيذها، كونها خارج النزاعات وصانعي النزاعات.

السرد الحكائيّ يتحرّر من قيدٍ علميّ في كتابة سيرة أو تأريخ لحظات وحالات. ففي كتابه هذا، يولي مروان نجّار أهمية أكبر للذاتيّ، بعفويته وبساطته وعمق ثقافته وقلقه الدائم من أجل الأفضل والأجمل والأهمّ، بعيداً عن ترّهات السياسة والأحزاب والالتزامات المباشرة، وعن متسلّطين "جهلة"، يخشون كلّ جديد منفتح، فهو (الجديد المنفتح) قابلٌ للإطاحة بهم، لعدم امتلاكهم ما يُحصِّن مواقعهم بعلمٍ ومعرفة ورؤية حسنة وانفتاح واعٍ على كلّ مفيد. حرّاس هيكلٍ يريدونه مُحطّماً، فيُعطّلون المختلف، لأنّ في المختلف تجديداً وتحريضاً على الأفضل والأجمل والأهمّ.

في سرده الحكائيّ، يظهر مروان نجّار غير قادر على التنصّل كلّياً من هواجسه الأساسية، في المسرح واللغة العربية، وهو ضليع فيهما، رغم تبسيطه شرحاً أو تعليقاً يتناولان بعضاً منهما. يضع نصّه في خدمة روايته الأصلية، لكنّه غير قابلٍ لتجاوز هواجسه المسرحية واللغوية، فيؤكّد مجدّداً أنّ جهده في اشتغالاتٍ تلفزيونية منبثقٌ من هوسه في جعل كلّ عملٍ يستفيد من مفهوم التسلية من دون تحويل التسلية إلى تغييب قلق الأسئلة، والبحث عن أعمالٍ غير تجارية وغير استهلاكية. له، في هذا كلّه، مواقف في السياسة والثقافة والفنون، يبوح بها مواربةً أو احتيالاً في صوغ جُمل تعكس شيئاً كثيراً منه. فهوـ بانصرافه إلى إعلاء شأن كلّ عمل يصنعه كي يكون إضاءة على خفايا الاجتماع الذي يأوي أفراداً ذوي علمٍ ومعرفة وثقافةـ يمتلك علاقاتٍ، بعضها صداميّ من دون أنْ يكون استفزازياً بليداً، تجعله يُحيِّد مسؤولين أساسيين في محطّات وشركاتٍ عن كلّ تأجيل أو تخريبٍ أو معاداة له، مُعتبراً، في الوقت نفسه’ أنّ لجاناً داخل كلّ محطّة وشركة يتعامل معها تحول دون تحقيقه المبتغى، مع أنّ تحقيق المبتغى يحصل بعد تأخّر، بفضل مسؤول أو صاحب محطّة.

كأنّ مروان نجّار، في هذا، يُقرّ بأنّ "فلاناً" جيدٌ لكن محيطين به سيئون للغاية. و"فلان" يكون مديراً أو أكثر لـ"تلفزيون لبنان" مثلاً (ألفرد بركات وكلود صوايا وشارل رزق وغيرهم، وصولاً إلى ريمون جبارة)، في مساره عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وخلال اندلاعها المؤدّي، من بين أمورٍ كثيرة، إلى انشقاقات في التلفزيون نفسه، وخضوع إلى أحزاب ومليشيات، فيضع نجّار نفسه في مرتبة مسؤولين شفّافين وصادقين ومجاهدين (إنْ يصحّ التعبير)، يصطدمون غالباً بحرّاس هيكل متداعٍ يريدون إبقاءه (الهيكل) متداعياً حماية لمواقع لهم ومصالح وارتباطات. والأسماء غالبة: بيار الضاهر وزوجته رندا (المؤسّسة اللبنانية للإرسال)، وطبعاً "البريزيدان" (بالفرنسية: President) أنطوان شويري، "ملك" الإعلانات ومحتكرها فترة طويلة. غير أنّ قولاً حسناً بهؤلاء لن يحول دون كلامٍ انتقاديّ صائب، يقوله مروان نجّار بحقّ بعضهم على الأقلّ. فبالنسبة إليه، كلّ نقدٍ بنّاء مطلوبٌ، وكلّ نقاشٍ ضروري، وكلّ تواصل فعّال، وكلّ تفاهم أساسي، وهؤلاء جميعهم يملكون ذكاء ووعياً وواقعية، يُقرّ بها نجّار ويتعامل معها رغم معوقات كثيرة. والسرد الحكائي ممتع، رغم أنّ نقاشه مُطالَبٌ بمزيد من التنقيب في مراحل واشتغالات. "حكايتي مع الشاشة" تطرح، في سياقها، سؤالاً يختصره مروان نجّار في عنوانٍ فرعي يتوه بين تساؤلٍ وتأكيد، رغم علامة الاستفهام في نهايته: "بشاشة أم هشاشة"؟

إعلام وحريات
التحديثات الحية

رغم أهميّة النص الحكائي، بما فيه من ذاكرة وتفاصيل ووقائع تجمع بعض الذاتيّ بكثيرٍ من العام، يحتاج الكتاب إلى ترتيبات شكليّة، تتلاءم وحيوية الكتابة ومسالك سردها وعوالمها المختلفة، التي تؤرشف زمناً وأعمالاً، وتوثِّق بيئات وآليات اشتغال، وتحمي ذكرياتٍ من اندثار يصنعه إهمالٌ ينفضّ عن التوثيق والأرشفة وسرد الماضي. فالتصميم غير جاذبٍ لقراءة أمتع، ولون الورق يحول، أحياناً، دون انشغالٍ مطلوب بالنص الحكائي وبجوانبه المتنوّعة، وحجم الحرف وشكله غير مُريحَين، وتزيين الصفحات بخطوطٍ غير منسجم وجمالية كتابٍ غير مدّعٍ ومتصنّع، لانغماسه في كشف خفايا، وإظهارٍ مبطّن لأهمية العمل التلفزيوني اللبناني، الرسميّ والخاص معاً.

تصميم الكتاب، بغلافيه الخارجيين وصفحاته الداخلية، غير مُريح البتّة، بينما الصُور الفوتوغرافية باهتة، وإنْ تكن قديمة وبالأسود والأبيض، فالتقنيات الحديثة كفيلةٌ، غالباً، بنفض تقنيات الماضي عنها، أو بعض تلك التقنيات على الأقلّ. فالصُور امتدادٌ للنصّ، واستكمالٌ لحكاية البوح المتحرّر من وطأة الخيبات رغم شدّتها (الخيبات)، ومن قسوة التحدّيات والمواجهات رغم صعوبة المراحل والبيئات والحالات، غير المتمكّنة من تخفيف حيوية الرجل، الصحافي والتلفزيوني والمثقّف والقارئ والمهتمّ بتفاصيل، تجعل العمل التلفزيوني الأسلم ابتكاراً لا تقليداً، وتأليفاً لا ترجمة/ نسخاً.
 

وُلِد الكاتب المسرحي والتلفزيوني والسينمائي مروان نجار في بيروت في العام 1947. لم تكن بداياته المهنية في مجال الكتابة والتمثيل، فهو درس الأدب واللغة العربية وحاز على دبلوم في أدب مقارن وتربية في الجامعة الأميركية في بيروت. كان مسلسل "ديالا" (الصورة) أولى بداياته في مجال السيناريو والحوار على الشاشة الصغيرة. لتتوالى أعماله في مجال الكتابة التلفزيونية ومنها "رحلة العمر"، "حكاية كل بيت"، "الفصل الأخير"

المساهمون