ونحن نتأمل وجوه مروان الطولانية، تحتلّنا رغبة في معرفة الزمن الذي أُنجزت فيه. قد تبدو من طريقة بنائها أنها رُسمت بعفوية وعنفوان وسرعة، ولكن تجاور الألوان الحارّة والباردة وتشابكها وتراكم اللمسات وتموضعها برهافة وإتقان على اللوحة يشي بأنها نُسجت على مهل كما ينسج الحائك الماهر سجّادته الشرقية.
تمتدّ تجربة التشكيلي السوري مروان قصّاب باشي، الذي غادرنا أول أمس، لأكثر من نصف قرن. استطاع الفنان خلالها أن يصنع حضوراً خاصاً في المحترف التشكيلي الأوروبي والعربي، على حدٍ سواء.
ولد مروان (يقدّم في الأوساط التشكيلية باسمه الأول فقط) في دمشق عام 1934 حيث درس "الآداب" في جامعتها لمدة عامين منتصف الخمسينيات، ليغادر بعدها إلى برلين حيث استقر حتى لحظة رحيله. في هذه المدينة درس الفن في "المدرسة العليا للفنون الجميلة" بين عامي 1957 و1963، ثم عاد ليصبح أستاذاً زائراً فيها عام 1973، وأستاذاً دائماً لمادة الرسم منذ عام 1980.
حصل خلال مسيرته الفنية على عدة جوائز منها "جائزة النحت الأولى" في "معرض الربيع" في دمشق عام 1956 عن تمثال "الجوع"، وجائزة "كارل هوفر" للرسم عام 1966، وجائزة "فريِد تيلر" عام 2002. كما أشرف على العديد من ورش العمل في "دارة الفنون" في عمّان، التي استقطبت الفنانين الشباب.
يمكن تقسيم تجربته الفنية إلى أربع مراحل زمنية تحدّدها الثيمات التي اشتغل عليها الفنان. الجسد هو ثيمة قصّاب باشي الأساسية، والتي بدأ الاشتغال عليها منذ أن كان في دمشق. جسد غريب هزلي، لكنه مخيف. نِسَبُه التشريحية غير مستقرة فرأسه يكبر بشكل مبالغ وكاريكاتوري كما في لوحة "منيف رزاز" و"خدوج"، أو يصغر كما في لوحة "ثلاثة صبية من فلسطين".
يبدو أن هاجس قصّاب باشي في تلك الفترة، كان اكتشاف أبعاد جديدة وغير مألوفة لهذا الجسد المعذّب فيخفيه وراء جسد آخر، ليبدو الاثنان كما لو أنهما واحد له أربعة أذرع، أو يخرج من صدره ذراعاً إضافية مثلاً لتلعب بالعين كما في لوحة "الزوج". ورغم السخرية الحاضرة من دون افتعال، هناك حالة سوداوية "ميلانكوليا" تسم تلك المجموعة تذكّر بأجواء النرويجي إدوارد مونخ (1863-1944) إلى حد ما، إذ يتقاطع الفنانان من حيث الانشغال بثيمة الإنسان وأسئلته الوجودية في عالم ضجر بائس تسوده الوحدة والموت.
لكن في فترة السبعينيات، يغيب الجسد الكامل في أعمال الفنان اللاحقة، لتبدأ مرحلة الرأس. في البداية رأس كبير يحتل فضاء اللوحة بالكامل ليختصره الفنان بعدها، مبرزاً الفم والعينين والأنف فقط. لم يأتِ الرأس أو الوجه عن فكرة مسبقة وإنما نتيجة تراكم وبحث دؤوب ليصبح مع الوقت قصة الفنّان الخاصة. "إنها إحدى السمات الهامة في أعمالي، أي رأس الإنسان، وجه الإنسان الذي أصبح الكل. أصبح الجسد والسماء والأرض" يقول الراحل عن علاقته بموضوعة الرأس في إحدى المقابلات.
لكن قصّاب باشي سيهجر هذا "الرأس"، مؤقّتاً لينهمك بموضوعة أخرى، وهي الطبيعة الصامتة. قد يبدو انشغاله الجديد بعيداً عن التشخيص غير أن التأمل في مفردات طبيعته الصامتة يجعلنا ندرك أنها تتقاطع مع موضوعاته السابقة، لا سيّما من حيث آلية أو تكنيك بناء اللوحة.
بدأت مرحلة الطبيعة الصامتة في أواسط السبعينيات بعد إقامته في "مدينة الفنون" cité des arts في باريس، حيث تطوّرت خلالها تجربته اللونية كما استعاد العلاقة مع الضوء الذي غُيّب عنه في برلين الضبابية. يقول مدير "متحف برلين للفن الحديث" ويورن ميركريت عن تأثير تجربة باريس على ألوان قصّاب باشي "أصبح اللون لا يلتصق بالأشياء، أصبح يتفجّر منها، ينطلق كضوء ملوّن، يخترق الصورة إلى أعماق الظل، مهتزاً متماوجاً بذبذبات دقيقة بحيث أصبح الشكل واللون يتداخلان في الصورة، لكي يتحلّل الموضوع، ثم ينضمّان من جديد إلى عملية الخلق في الرسم".
اعتمد الفنان الراحل في اختيار مفردات طبيعته الصامتة على عناصر من الحياة اليومية، فقد رسم الأشياء المتراكمة من دون ترتيب، على طاولة المرسم؛ الفاكهة والسكاكين وأدوات الرسم وأرغفة الخبز.. إلخ. غير أن ما يلفت النظر في هذه التجربة والذي يجعلها تقدّم مفهوماً مختلفاً عن فكرة الطبيعة الصامتة النمطية؛ اشتغال قصّاب باشي على عامل الزمن وتأثيره على الأشياء، وعلى حدّ تعبير الناقد كنون تيغرز المتابع لتجربة الفنان فإن "الحياة والتفسّخ يتداخلان وكأنهما في وحدة متكاملة... نرى الموت حاضراً باستمرار إلى جانب الامتلاء بالحياة النابضة".
من الطبيعة الصامتة تنبثق مرحلة جديدة وهي الدمية في مطلع الثمانينيات؛ نستطيع أن نبحث مطوّلاً عن الدوافع التي جعلت قصّاب باشي يميل إلى عنصر الدمية لما تحمله من دلالات متنوّعة. لكن الواضح من متابعة تجربة الفنان الطويلة والغنية أن خياراته المتنوّعة نابعة، في المقام الأول، عن الحرية في اختيار مواضيع لوحاته، وقد يكون الدافع هو ببساطة رغبة في عدم الوقوع في فخ الملل. فالدمية كما الطبيعة الصامتة حجّة لإعادة اكتشاف الأشياء وتجسيدها على اللوحة. في ذلك يرى الكاتب العربي الراحل وصديق الفنان، عبد الرحمن منيف، أن الدمية هي استراحة من الوجوه؛ فيقول "وصلت وجوه قصّاب باشي إلى حالة من العذاب والتفتّت، الأمر الذي جعله يوقف هذه المرحلة ويبحث عن آفاق جديدة. كانت البداية للطبيعة الصامتة، والتي تخلّلتها الدمية، ثم أصبحت الدمية وحدها موضوعاً لعمله لبضع سنين".
وكلام منيف، الذي ألّف كتاباً بعنوان "مروان قصاب باشي.. رحلة الحياة والفن" عام 1996، صائب؛ فالرسام المسكون بالوجوه يعود إلى ثيمته المفضّلة مرة أخرى في منتصف التسعينيات محمّلاً، هذه المرة، بروحٍ جديدة.
وجوه قصّاب باشي الجديدة الطولانية أكثر اختزالاً وتجريداً. بناؤها المعماري حِيك بتشابك ضربات الريشة الضيّقة والعريضة وبطريقة عامودية وأفقية في آنٍ معاً. لقد تحوّل الوجه في التجربة الجديدة إلى مختبر لوني غنيّ تتجاور فيه الألوان الباردة والحارّة معاً، لتشبه البساط المنسوج من دون أن يلغي هوية الوجه المتبدّد.
عن اللون يقول قصّاب باشي "تتغيّر علاقتي بالألوان مع الزمن، وأستطيع أن أتحدّث عن هذا بعد تجربة طويلة، التغيّر يأتي عضوياً، وهكذا يصنع الفنان لنفسه "باليت"، أي مجموعة خاصة من الألوان، وهذه لا تأتي من المصنع مباشرة أو من الكيمياء، إنها تأتي من الأصابع، من القلب، ثم من عملية اكتشاف مستمرّة، لا تخلو من عنصر المغامرة".
مروان في تاريخ الفن هو واحد من أهم المعلمين الذين أثّروا على تجارب العديد من الفنانين الشباب، وهو من أبرز التشكيليين الذين شكلوا هوية خاصة أخذت وجرّبت من وفي ثقافيتين مختلفتين.
كلمته الأخيرة
حين انتظم "السيمبوزيوم المتوسطي" في مدينة الحمامات التونسية، مؤخراً هذا الشهر، كان مبرمجاً فيه تكريم مروان قصّاب باشي، غير أنه اعتذر عن الحضور لأسباب صحية، لكنه شارك بكلمة مسجّلة من تسع دقائق تحدّث فيها عن تجربته التي قال عنها "وجدت دمشقي في برلين". وأكّد ضرورة الإخلاص للفكرة الفنية المنبثقة من الذات، فـ "محاولة التعبير عن النفس هي التي تُظهر بعد سنوات، قد تكون 20 أو 30، شخصية الفنان ورسالته".