مرحلة جديدة في الحرب على فلسطينيي الداخل
عندما تعترض نُخبٌ يمينية صهيونية وازنة على سَنّ قانون "القومية"، الذي أقرّته الحكومة الإسرائيلية أخيراً، وعندما ينعته وزير الخارجية والحرب الأسبق، موشيه أرنس، الذي كان من صقور حزب الليكود، بأنه "خطير وضار"، فإن هذا يشكل دليلاً آخر على جنون التطرّف الذي بات يوجّه النخبة الحاكمة في تل أبيب. فعلى الرغم من أن رئيس "الدولة"، روفي ريفلين، الذي ينتمي أيضاً إلى الليكود، قد لفت نظر رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى أن أحداً ليس في وسعه تبرير المضامين "العنصرية وغير الديموقراطية الفجّة" التي ينطوي عليها القانون، ومع أن معظم القانونيّين، وضمنهم المستشار القانوني للحكومة، قد أوضحوا أن القانون يتعارض حتى مع ما يعرف بـ "وثيقة الاستقلال"، التي يُنظَر إليها في إسرائيل على أنها بمثابة المرجعية التي تستند إليها القوانين، فإن نتنياهو يضرب بعرض الحائط هذه التحذيرات، ويصرّ على المضيّ في طرح القانون على البرلمان، لنيل ثقته.
ينطلق نتنياهو من افتراضٍ مفادُهُ أنّ دفْعَهُ قانونَ "القومية" قدماً سيحسّن فرصه بالبقاء في ديوان رئاسة الوزراء لولاية رابعة، في ظلّ المؤشرات التي تؤكد أنه سيتم تبكير الانتخابات، بعد فشل نتنياهو في الاتفاق مع حزب "ييش عتيد"، برئاسة وزير المالية يئير ليبد، على صيغة تضمن استمرار الائتلاف. يبدو نتنياهو قلقاً جداً من نتائج استطلاعات الرأي العام، التي تؤكد أن تراجعاً كبيراً سيطرأ على عدد المقاعد التي سيحصل عليها "الليكود" في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن أن هذه الاستطلاعات أظهرت أن نسبة الذين يرون أنه غير مؤهل لقيادة الكيان الصهيوني تصل إلى 62%. لكن، لا تقلل اعتبارات السياسة الداخلية مطلقاً من خطورة سَنّ القانون الذي سيفتح صفحة جديدة من الصراع بين الشعب الفلسطيني وهذا الكيان. يضفي هذا القانون شرعية قانونية على كلّ إجراءٍ، يمكن أن تقدم عليه إسرائيل، من أجل الحفاظ على طابعها اليهودي، سواءً الجغرافي، الديموغرافي، الثقافي والاجتماعي. فالحفاظ على الطابع اليهودي للجغرافيا يعني إسدال الستار على أي فرصة للتوصل إلى التسوية السياسية للصراع، تقوم على مبدأ الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتُلَّت عام 1967. وقد كان موشيه فايغلين، نائب رئيس الكنيست، وأحد المبادرين لسَنّ القانون، واضحاً عند تقديمه مشروعَ القانون، فقد قال: "هذا القانون يحصّن حقَّ الشعب اليهودي المطلَق في هذه الأرض، ويحبط أية فرصة للتنازل عن أي جزء منها، فكل حكومة في إسرائيل ليس من حقّها التخلي عن جزء من هذه الأرض، بوصفها ملكاً للشعب اليهودي في جميع أرجاء العالم".
ويمهّدُ القانون الطريق أمام تسويغ طرد الفلسطينيين "الترانسفير"، لضمان الطابع الديموغرافي. فلم تكن مصادفة أن يسارع وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، بعد أن أجازت حكومة نتنياهو سَنّ القانون، وقررت تقديمه للبرلمان للمصادقة عليه؛ إلى طرح اقتراح للتخلص من فلسطينيي الداخل، ونقلهم إلى مناطق الضفة الغربية، عبر منحهم "محفّزات اقتصادية". وعلى الصعيد الثقافي، سيسهل القانون الجديد مهمّة الوزراء والنوّاب الذين يطالبون بإنهاء المكانة الرسمية للغة العربية، التي يتحدّثها أكثر من 20% من فلسطينيي الداخل، الذين يعتبرون جزءاً من "مواطني الدولة"؛ مع العلم أن مشروعَ قانونٍ قد قُدِّم للكنيست لإلغاء المكانة الرسمية لهذه اللغة.
في الوقت نفسه، سيسمح القانون لرؤساء البلديات والمجالس المحلية الصهاينة بإصدار قرارات إدارية، تحظر على فلسطينيي الداخل السكنَ في مدن يقطنها اليهود؛ مع العلم أن رؤساء بلدياتٍ اتخذوا قرارات تجعل من المستحيل على الفلسطينيين الإقامة في مدن تقطنها أغلبية يهودية، كما يحدث حالياً في مدينة "نيتسرات عليت"، المتاخمة للناصرة.
وإنْ كان هذا لا يكفي، فإن القانون سيعزّز من مكانة التراث الديني اليهودي، وإضفاء شرعية على الاستناد إليه في تبرير مواقف سياسية وأيديولوجية. وكما يقول رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، الليكودي المتدين زئيف إلكين، يجب أن تولي الحكومات اهتماماً كبيراً بما يصدر عن كبار الحاخامات و"مرجعيات الإفتاء". ولا داعي، هنا، للتذكير بالمضامين العنصرية الإجرامية لفتاوى الحاخامات التي تجيز قتل حتى الأطفال الفلسطينيين الرضّع، مع العلم أن بعض هؤلاء الحاخامات يعتبرون مرجعيات لأحزاب ذات وزن كبير. فالحاخام دوف ليئور، حاخام مستوطنة "كريات أربع"، والذي يجيز قتل المدنيين الفلسطينيين، هو المرجعية الأبرز لحزب "البيت اليهودي"، الذي يقوده الوزير نفتالي بنات، وهو الحزب الذي تتنبأ استطلاعات الرأي أن يصبح ثاني أكبر حزب في البرلمان القادم.
ونظراً لأن قانون "القومية" سيكون ضمن قائمة القوانين الأساسية، فإنه سيتحول، بحد ذاته، إلى مسوّغ لسَنّ عشرات القوانين العادية، ذات المضامين العنصرية. ويعكف بعض نواب اليمين على صياغة مثل هذه القوانين. وممّا لا شك فيه أن فلسطينيي 48 هم المستهدَف الرئيس من سَنّ هذا القانون. فتأكيد القانون على أن "الحق في تقرير المصير في دولة إسرائيل حق يعود فقط للشعب اليهودي" جاء لنزع الشرعية عن مطالبة نخب فلسطينيي 48 بحكم ذاتي لهم داخل إسرائيل، يحافظ على خصوصيتهم القومية والثقافية والدينية. يمهّد قانون "القومية" لمعركة "كسر عظم" مع فلسطينيي الداخل، ويعيد رسم العلاقة بينهم وبين الكيان الصهيوني على أسس جديدة. إن المرحلة القادمة في الحرب على هؤلاء الفلسطينيين تهدف إلى تصفية حقوقهم السياسية كـ"مواطنين"، بنزع الشرعية عن حق نخبهم في المشاركة في انتخابات البرلمان. فعلى سبيل المثال، يجاهر النائب الليكودي، داني دانون، بأنه يعدّ مشروع قانون يلزم كل نائب في الكنيست بأداء قسم الولاء لـ"الدولة اليهودية". وهذا يعني إغلاق الباب أمام مشاركة الأحزاب والحركات التي تمثل فلسطينيي الداخل في الانتخابات، حيث أنه لا يمكن لممثلي هذه الأحزاب أداء قسم الولاء لـ"الدولة اليهودية".
قصارى القول، قانون القومية هو في مرحلة جديدة من الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، ويجب أن يجد هذا الاستنتاج تأثيره على سلوك قيادة السلطة والفصائل الفلسطينية، لكن، من أسف، لا يشي الواقع بذلك.