مراقبة "الغريب" تفضح الجميع: نهاية شاعرية مُستَهلكة

29 ابريل 2020
غريبٌ يُفكّك مجتمعاً (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يطرح "الغريب" للإيراني نادر ساعي ور (1975)، المُشارك في "مُنتدى" الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط - 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، ما هو أبعد من دور السلطة والرقابة في إيران. إدانة سلوك الدولة وممارسات أجهزة الأمن ليست هاجسه الأول، بل رصد تأثير الممارسات على الأفراد وسلوكياتهم. لذا، يُعالج الفيلمُ موضوعه اجتماعياً ونفسياً، أولاً.

يومياً، في المكان نفسه (أحد أحياء مدينة مجهولة الاسم)، تقف سيارة مثيرة للريبة، يستقلّها غريبان لا يفعلان شيئاً غير مُراقبة حركة الشارع والمارّة والمحلات. تدريجياً، يؤدّي هذا إلى إثارة فضول سكّان الحيّ، ثم خوفهم، الذي ينقلب سريعاً إلى ذعر غير مبرّر بينهم. رغم ذلك، يحاول البعض أنْ يتصرّف كأنّ الأمر لا يعنيه، أو يتظاهر بأنْ ليس هناك ما يُقلِق. ورغم محاولات التودّد والملاطفة، وحتّى تقديم المشروبات والطعام إلى راكبَيْ السيارة، لا يحصل أهل الحي على معلومات تقلِّل من مخاوفهم، أو تزيل الغموض.

مع مرور الوقت، يُقرّ السكّان بأنّ للأمر علاقة بجهاز الأمن الداخلي الإيراني، وبأنّهم مُراقَبون. لكنْ، من المُراقَب بينهم تحديداً؟ لاحقاً، يتّضح أنّ لكلّ واحدٍ منهم ما يخشاه: أحدهم اختلس مالاً من مصرف يعمل فيه، يظنّ أنّه افتُضح؛ وابن جار آخر يُدمن المخدرات والكحول، فيظنّ أنّه لا يزال مُراقباً أمنياً.

في الجهة المقابلة لمكان توقّف السيارة، يسكن أستاذ التاريخ بختيار (بختيار بنجه أي)، من الأقلية الكردية التي تعيش في المدينة المختلطة عرقياً (إيرانيون فرس وأكراد وأتراك، فتُستخدم اللغات الثلاث). الأمر شائك، فبختيار يُقيم في المدينة منذ عامين فقط، ولا أحد يعلم الكثير عن خلفيته وماضيه. لهذا، تُثار الشكوك حوله، فهو الغريب الوافد حديثاً. سابقاً، لم يشعر بختيار باغتراب اجتماعي بين سكّان الحي. يعيش بينهم بهدوء وسلام، والجميع يحبّونه ويحترمونه ويبوحون له بأسرارهم الخاصة. لكن الريبة ضربت عقولهم، فتأجّج الخوف فيهم وسيطر عليهم، ما جعل بختيار المُدانَ الأول بالنسبة إليهم، فيُعامل كمُجرم، رغم أنّه لم يفعل ما يُدينه.

مشكلة بختيار أنّ والده، المُقعد والمُصاب بفقدان ذاكرة، سجين سياسي سابق. بختيار نفسه لا يعرف ما إذا كان هو مُراقَب، أو والده، أو أحد آخر من سكّان الحي. لكنّه يثق بنفسه، فهو لم يرتكب ما يستوجب الإدانة، باستثناء وجود وصلة "إنترنت" سريع، وصحن لاقط في منزله، يتخلّص منهما. لكنّ الحال يبقى كما هو، ما يزيد المشاكل، خاصة مع زوجته سيفيل (سو يل شير كير)، التي فرّ شقيقها إلى خارج البلد لأسباب سياسية غامضة، والتي تهاتفه سراً أحياناً. إنّها مُقتنعة بأنّ بختيار هو المُراقَب.
لبختيار مشاكل في المدرسة أيضاً، التي يُطرد منها لاحقًا لتجرّؤه على إدانة ابن مسؤول تنفيذي بالغشّ أثناء الامتحان، فيجد نفسه محاصراً من الجميع، الذين يضغطون عليه ويطالبونه بضرورة لقاء مَن في السيارة، ومعرفة حقيقة ما يجري. يرفض بعزمٍ وإصرار فترة طويلة، ثم يرضخ على مضض بعد تدمير حياته.

"الغريب"، أول روائي لنادر ساعي ور، بعد أفلام قصيرة. إلى الإخراج، يكتب سيناريوهات، مشاركاً جعفر بناهي في كتابة فيلمه الأخير "3 وجوه" (2018)، الفائز بجائزة السيناريو في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي. في "الغريب"، شارك بناهي في كتابة السيناريو، واشتغل مونتاجه. فيه تفاصيل صغيرة ومحورية ولافتة للانتباه رغم بساطتها. التدفّق التدريجي للحبكة الواقعية، كأغلب الأفلام الإيرانية، يُكسبه قوة وغموضاً وإثارة. ورغم الطبيعة الشائكة للموضوع، لم يعزف السيناريو على أيّ وتر عرقي. هناك انتفاء لأدنى شبهة نزاع عرقي بين أغلبية وأقلية. هنا تكمن أهمية الطرح، لا سيما على المستوى النفسي لسلوكيات الأفراد في أوقات الخطر. هذه ظاهرة يمكن مشاهدتها بكثرة في أماكن مختلفة في العالم.

يتميّز "الغريب" بإخراج مُحكم. أوجه التميّز (إلى السيناريو) بارزة في مستويات عدّة، كالاختيار الجيد للممثلين، خاصة بختيار بنجه أي، بوجهه الصارم وطيبته وسلامه النفسي مع ذاته ومع الجميع. في الفيلم مَشاهد كثيرة جيدة، تصدم أحياناً، كمشهد انتحار الشاب المدمن السابق، جار بختيار، رامياً نفسه من نافذة منزله؛ وتكون أحياناً أخرى كوميدية، كمشهد التحقيق الكافكاوي مع بختيار من قوى أمنية، وإنْ أثار حشر المشهد في السياق علامات غموض وتكلّف كثيرة؛ بالإضافة إلى الـ"فَارْس"، كحوار بختيار مع ساعي المدرسة، وأسئلته الغريبة وغير المنطقية.

لعلّ المشكلة الوحيدة لـ"الغريب" نهايته شبه الشاعرية، لكونها مُستهلَكة.
المساهمون