مراجعة "الربيع العربي"

18 مارس 2015
+ الخط -

مضى أكثر من أربع سنوات على "الربيع العربي"، فترة كافية للتأمل في ما حدث، وتسجيل الملاحظات عن بعد. من الناحية الوصفية، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

عزف الربيع العربي عن أشكال الحكم الوراثية، ما خلا البحرين. والتحركات التي طالت سلطنة عمان والسعودية والأردن والمغرب جرى احتواؤها، ولم تتطور إلى مستوى ثورة شاملة.

تجاوز الربيع العربي عن الجزائر أيضاً، وقد يكون السبب قرب عهد الجزائريين بالعشرية السوداء (تسعينيات القرن الماضي) التي أنهكت البلاد، وروعت الناس على يد العسكر والإسلاميين، وأفرغت طاقة التغيير عند الجزائريين لزمن قادم قد يطول.

كان سقوط الأنظمة الصديقة للغرب (تونس، مصر) أسرع وأقل ألماً وكلفة بشرية ومادية من سقوط الأنظمة "الممانعة". وكانت صعوبة التغيير وآلامه تزداد بشكل مضطرد كلما ابتعدنا بالزمن عن لحظة الانفجار التونسية، حتى وصلنا إلى الكارثة السورية التي شكلت، بما آلت إليه، رادعاً لبقية الشعوب العربية عن المضي في موجة "الربيع العربي"، مثلما شكل غزو العراق، وما تلاه من عنف وفوضى، صدى نفسياً عند الشعوب العربية ضد فكرة الديمقراطية التي بشرت بها أميركا التي وعدت بأن يكون العراق شمس إشعاع ديمقراطي، فتحول إلى مركز إشعاع طائفي، ومقر لداعش.

تنوعت أشكال "رحيل" الرؤساء: فرار الرئيس في تونس، تنحي الرئيس ومحاكمته في مصر، ملاحقة وقتل درامي للرئيس في ليبيا، إثر تدخل عسكري غربي، تنحي الرئيس في اليمن بعد معاندة طويلة وضمان خليجي ودولي بعدم محاكمته.

تنوعت نتائج ما بعد السقوط. في ليبيا، تفكك المستوى السياسي وصراع دموي على السلطة، مع وجود قوي للاتجاهات الإسلامية المتطرفة، وضياع الأهداف السياسية للثورة، إضافة إلى ظهور بوادر تقسيم. ضعف الدولة في اليمن مكّن الحوثيين من السيطرة على صنعاء، بالتحالف مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح (مع دور إيراني بارز)، واستقالة الرئيس ثم فراره (عبدربه منصور هادي من أصل النظام السابق) إلى عدن، واتخاذ الصراع طابعاً طائفياً. عودة مصر إلى ما كانت عليه، وكأن ثورة لم تندلع، حيث تمت تبرئة حسني مبارك وولديه ووزير داخليته، رغم سقوط حوالى 850 شهيداً في 17 يوماً من التظاهر السلمي (أكثر من عدد شهداء الثورة السورية في شهرها الأول). تموضع حذر لنظام تداولي للسلطة في تونس، مع ملاحظة أن وجوه النظام القديم تسيطر على المشهد الجديد، ولكن عبر صندوق الانتخاب.

فشلت الرهانات جميعها في سورية. فشل رهان النظام المبكر في أن "الربيع العربي" لن يعرج على سورية الممانعة، كما مر على مصر كامب ديفيد، وفشل رهانه أيضاً في التبشير المبكر بأن الثورة (سميت في إعلام النظام بالأزمة) "خلصت"، وأن "سورية بخير". كما فشلت رهانات المعارضة التي بشرت بسقوط النظام، خلال أسابيع أو شهور قليلة، أملاً في تكرار الحدثين، التونسي والمصري. وفشل رهان المعارضة السورية، تالياً، في تقليد التسلسل الليبي. وفشلت توقعات الشعب السوري في إمكانية تجاوب النظام الذي برهن على استعداده، ليس فقط للكذب والمناورة وخداع الناس، بل أيضاً استعداده الفعلي لحرق البلد، قبل التفكير في فك احتكاره السلطة. كما فشلت آمال الشعب السوري ببروز معارضة موحدة ذات مصداقية وجرأة، تفرض احترامها على الجميع. إلى هذا، فشلت رهانات أردوغان في أنه لن يسمح بتكرار مجزرة حماة، وفشلت قطر والسعودية في اندفاعتهما المعادية للنظام السوري واستسهالها سقوطه، حتى روسيا وإيران وحزب الله لم يكن في حساباتهم أن الدفاع عن النظام السوري سوف يحتاج إلى كل هذه التكاليف، وكل هذا الانخراط المباشر.

في كل مجريات الربيع العربي، تقدم الهمّ الاجتماعي على الهم الوطني، وكان القاسم المشترك بين الأنظمة التي شملتها هذه الثورات هو القمع وتجاوز القانون وإذلال الناس والمعاملة التمييزية بينهم على أسس العشيرة أو الطائفة أو الولاء أو الثروة. واللافت ترافق ضعف الحساسية الوطنية تجاه إسرائيل وأميركا مع اندلاع الثورات العربية، ما يؤكد أن الاستبداد العربي المترافق بشتى أصناف الفساد وانعدام المحاسبة حليف موضوعي للاحتلال.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.