مرآة الأنام في دار السلام (5)

19 يوليو 2020
+ الخط -

اغتم المعتز لمَّا قُتل أبوه، وآلمه أن القاتل ليس غريبًا، إنما أخوه الأكبر هو المجرم، وقد ذهب المنتصر وعار قتل أبيه يلاحقه، وأقبلت الخلافة إلى المعتز بعد عمه المستعين؛ فهل جاءته وهو صفر اليدين من الدماء؟ وهل استوعب الدرس ممن سبقوه؟ كلا وألف كلا، يبدو أن حال الساسة واحد، وأن داءهم لا دواء له!

تغيَّر مزاج المعتز يومًا دون سبب محدد، فجأة انقلب عبوسًا مُغضبًا، لا علم لي إن تشنَّج قولونه العصبي أم لا، لكنه أشار إلى حاشيته بالخروج، وانطوى على ذكرياته يستقرئها ويعاتبها سرًا، ويستكتم خبرها علانيةً حتى كأنه لم يرتكب جُرمًا ولا حتى هفوة.

هل استحق أبي القتل؟ إنه لم يبدأ بدعة إسناد ولاية العهد لأكثر من شخص، لكنها سُنَّة وُلدت مع دولتنا، بل إنها توأم الخلافة العباسية؛ فكيف يُلام أبي وحده؟ ولو وسعتُ الدائرة لاتسعت معها قائمة المتهمين وصولًا إلى جدنا السفاح. يقول الناس في طرقات سامراء خفية إن أبي سبح ضد التيار، وهذا صحيح، لكنه تيارٌ عفن ارتكز على عصبية قبيحة، ولولا شجاعة أبي لما حاربها.

لكن هل يحق لنا أن نتبرم من العصبية ونحن حملة لوائها؟ آهٍ من الكراسي وما تجره على الخلق! إننا صنعة هذا البعبع المسمى بالتُّرك، ومن قبلها صنعنا غولًا يقال له الفُرس، سامحك الله يا جدنا السفاح، تُرى ما دعاك إلى هذه الكارثة؟ ما أظنك كتبت إلى أبي مسلم تقول "إن استطعت ألا تدع في خراسان من يتكلم العربية فافعل، واقتل كل غلامٍ منهم بلغ خمسة أشبار".

لا أدري من أين جاء الطبري بهذه الرواية، وقد صورنا بعضهم بأننا كرهنا العرب حتى النخاع، ويستدلون بأننا قدمنا الفرس ومن أرضهم طلعت شمس خلافتنا، وأننا فتحنا المجال للفرس أن يساووا بين وقعة الزاب (132هـ) وموقعة القادسية (15هـ)، وتبجح بعض الخرسانيين فقال إن الزاب كانت ردًا على القادسية، لكننا نخوض غمار سياسة، وفي عرف الساسة "اللي تكسب به العب به"، لا ثوابت ولا مبادئ رصينة، لكن هل وصل كرهك يا جدي لأرومتك هذا الحد؟! مستحيل، وأظنها من تخرصات الرواة أو سقطاتهم.

تلفّت المعتز خشية أن يطلع أحدهم على سريرته، ولما اطمأن إلى عزلته عن الرُّقباء عاد إلى نجواه، واسترجع شريط ذكريات طويل، يربط به الفرع بأصله والبُحيرة بالمحيط، يريد الوصول لاستنتاج ينتشل عرش أسرته من تخبطه. اتُهم جده الأقرب (المعتصم) باصطناع التُّرك، وجده الأبعد (السفاح) بكراهية العرب واصطناع الفرس، وكان عليه أن يوازن بينهما ويسبر غور المسألة.

وفي غمرة النقاش الذاتي، استبعد فكرة أن تصل نِقمة السفاح على العرب حدًا صوَّره الطبري، صحيح أن فورة الغضب ربما دفعته إلى المبالغة، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك مراده الحرفي، ولا يعني ذلك كذب الطبري؛ فالأمور شائكة ومتشابكة إلى أبعد الحدود. حدّث نفسه: ألم يأمر السفاح بإسناد قيادة الجيش إلى قحطبة بن شبيب؟ إن القيادة يومها كانت في يد أبي مسلم الخراساني، واستنكف جدي أن يؤمِّر غير عربي على جيش يدخل بغداد؛ فكيف نُتهم بكراهية العرب.

وتنهّد المعتز وقد أضنته الذكريات، وهو يفتش في الدفاتر القديمة، لا يستسيغ فكرةً طاردت العباسيين، إذ قدَّموا غير العرب في كل مجالات الحياة، وشجعوا عصبياتٍ عدة بدأت بالفرس في خراسان، ومن بعدهم التُّرك ثم الديلم والسلاجقة، وبزيادة العصبيات يتقزَّم دور العرب في الخلافة، حتى صار دورًا هامشيًا إن لم يكن معدومًا، وفُتح الباب أمام الموالي للاستخفاف بقدر الخلافة، وقتلوا خليفةً (المتوكل) مبتدئين فصلًا قاتمًا في امتهان الخلفاء معنويًّا وماديًّا.

لكن المعتز -وإن أنكر ذلك- مدين لهذه العصبية، إذ كان أقرب إخوته إلى قلب أبيه، ولذلك اختار له ولاية خراسان، ويبدو أن المتوكل عجمَ أعواد بنيه وخبُر نفسياتهم، وفطن إلى تغوّل المنتصر ومحاولته الانفراد بالأمر؛ فاختار خراسان لتكون حصن المعتز. أدرك المتوكل الرمزية التاريخية في تأسيس ورعاية الخلافة العباسية، فضلًا عن قدرة الطاهريين القتالية وقد أحكموا قبضتهم على خراسان منذ 205هـ.

عُرِفَ الطاهريون بالولاء المطلق لخلفاء بني العباس، وسبق أن استماتوا في نُصرة المأمون حينما خلعه أخوه الأمين، وظلوا في طاعته حتى قتلوا الأمين وحملوا رأسه للمأمون، واستتبّ له عرش الخلافة بفضلهم؛ فأراد المتوكل أن يعيد المشهد بتفاصيله، وأن يوازن بين مناصري المعتز (الطاهريين) وأتباع المنتصر في سامراء (التُّرك).

موازنةٌ دفعت الخلافة العباسية ثمنها مرارًا، بدعة ابتدعها الدعاة والنقباء، واستمرأها الرعيل الأول لخلفاء العباسيين، وأولع بها المنصور مصطنعًا الفرس بعد الإطاحة ببعض رؤوسهم، وصولًا إلى الرشيد والذي نكبَ البرامكة، ثم المأمون وقد نكب بني سهل، لكنه استعمل أسرة فارسية أخرى، هم آل طاهر (الطاهريون)، ربما تعصَّب المأمون للفرس لأنهم أخواله، لتتبدّل الوجوه والمبدأ واحد.

وجاء المعتصم، وأمه تركية، فأذكى العصبية بين جنوده، وقدّم التُّرك على الفرس؛ ليزيد الأحداث اشتعالًا بين أصحاب الحرس القديم والطامعين الجدد، وحاول أن يسيطر على مجريات الأمور قدر استطاعته، لكن انفلتت الأعنَّة من يده، ومعه بدأ ضعف الدولة، وترك الخلفاء من بعده الخُطُمَ على الغوارب، ودخلت الخلافة مرحلة الغيبوبة الصغري، وما عرف بالعصر العباسي الثاني، مُفتتِحًا خلفاءه بالمتوكل.

وجاء قتل المتوكل نذير شؤم للخلفاء من بعده، إذ إنها حادثةٌ لم يسبق لها مثيل، لم يُقتل قبله من الخلفاء إلا مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين؛ فهل ينفض سامر العباسيين بمقتل المتوكل؟ وهل تطلع شمس خلافة جديدة بأيدي الفاطميين مثلًا؟ لقد بزغت شمس خلافة فاطمية، لكنها تأخرت عن الموعد المضروب، وكان للمتوكل يدٌ في ذلك ولو بشكلٍ غير مباشر.

لم يغادر المعتز مجلسه، مارس العصف الذهني ليفهم الأحداث المتسارعة، واستوقفه طويلًا مخالفة أبيه نهج المأمون والمعتصم والواثق في مسألة القول بخلق القرآن، وسأل نفسه: هل أطلق أبي سراح أحمد بن حنبل عن قناعةٍ؟ أم أخرجه من محبسه نكايةً في حزب الواثق؟ وسيُطلعنا المعتز على تفاصيل هذا الملف، لكن في اللقاء المقبل.

دلالات