مدّ إسلاميّ برسم الجزر

14 يوليو 2015

مساجد غير آمنة في ظل التطرف (يوليو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
كنت كافراً حين لجأت إلى بيت أبي سفيان بن حرب، لدى فتح مكة، في السنة الثامنة للهجرة، على الرغم من أنني لم أكن خائفاً من المدّ الإسلامي الذي كان يقوده الرسول الكريم، محمد بن عبدالله، بل كانت تحفزني رغبة اللجوء إلى ملاذ آمن من تلك الملاذات التي عرضها علينا الرسول، من باب تعزيز الشعور بالطمأنينة لا غير.
وثقت بتعهدات محمد بن عبدالله، لأنني عرفته صادقاً أميناً، لا ينقض عهداً ولا ذمة، حتى إنني فكرت ملياً بالتزام بيتي، أو أي دار مفتوحة للعبادة، ديراً كانت أو كنيساً، لأنني كنت على ثقة بأن المسلم الحق لا يقتل من يخالفه المعتقد والفكر.
على هذه القناعة، دخلت بيت أبي سفيان، وحظيت في كنفه بالأمن والطمأنينة، بل ورحت أهدئ من روع زوجه، هند بنت عتبة، التي كانت تخشى انتقام الرسول منها لقاء مضغها كبد حمزة بن عبد المطلب، فأقنعتها بأن الإسلام يجبّ ما قبله، وأن الرسول سيتجاوز عن فعلتها، ما دامت دخلت في كنف هذا الدين.
حاصل القول، دخلت هذا الدين الحنيف الذي يبدأ بالسلام والأمن، وينتهي به، ووجدت، بعد ذلك، في المساجد ملاذاً آمناً كذلك، لأنها غدت دوراً للعبادة هي الأخرى، تنتصب إلى جانب الدور التي سبقتها.
أما اليوم، وبعد مضي أكثر من أربعة عشر قرناً على فتح مكة، أجدني الآن هارباً مروّعاً، أنا المسلم الذي نطق بالشهادتين، وتغلغل الإسلام في روحه وجوارحه، أبحث عن ملاذ آمن منْ مدٍّ إسلامي جديد، لا يقيم وزناً للأرواح، ولا يعترف باختلاف الشعائر، فكيف باختلاف العقائد؟
اليوم أبحث عن دار أبي سفيان، فأجدها ملئت فخاخاً وأحزمة ناسفة، ثم أعرّج على أقرب مسجد، فيهولني منظر الدماء والأشلاء التي تنقذف منه قبل أن أصل إليه، لأن ثمة "مسلماً" جديداً، وبمواصفات مغايرة، بات يرى في المسجد وكراً للكفر والضلال، خصوصاً إذا صلى فيه مسلم من طائفة أخرى، قد لا تتطابق بالضرورة مع طائفته.
اليوم أهرب فزعاً من "مسلمين" جدد، يحملون المصحف الذي أحمله، ويشاركونني شعر لحيتي، وسجادة صلاتي، ومسواكي، وإيماني بالجنة والنار، لكنهم سرعان ما يجزون عنقي من دون سبب، سوى لأنني لا أعترف بالعنف والتطرف سبيلاً للدعوة ربما، أو لأنني وضعت حجراً أمامي في أثناء الصلاة، أو لأنني أخطأت اتجاه القبلة.
أتطاير رهبة من ذوي لحى يشهرون السيف قبل الدعوة، ويتفننون في ابتكار فنون جديدة للإعدام، أو بإعادة إنتاج أساليب طواها زمن التوحش الآدمي، منذ ما قبل محاكم التفتيش، وإعدامات العصر الفيكتوري، ويضفون على وحشيتهم آيات من القرآن الكريم، ولا يبدأون الذبح والحرق والتفجير إلا بعد البسملة وقراءة الفاتحة والتكبير، في محاولة بائسة ومبتذلة لإضفاء الشرعية الدينية على توحشهم.
قديماً كنا نقول إن الإسلام مبتلى بالكفر، أما اليوم فلا مناص أمامنا غير الاعتراف بأن محنة الإسلام الجديدة إنما تكمن بالمسلمين أنفسهم، من دون أن أستثني أنفسنا، نحن الذين أوجدنا البيئة الحاضنة للتطرف، بفهمنا الخاطئ للإسلام، وبمجتمعاتنا القائمة على الإقصاء والنبذ وغياب الصفح والتسامح، وبالتشدد الأرعن في علاقاتنا الاجتماعية، وبتنصيب أنفسنا قضاة وجلادين على ضعفائنا ونسائنا وأولادنا، إلى الحد الذي نستسهل فيه القتل، تارة باسم الشرف، وطوراً باسم الخروج على أعراف وتقاليد بالية.
من هذه البيئة الحاضنة، خرج المتطرفون الذين نهرب منهم الآن، وإلى هذه البيئة نفسها يعودون إلى قتل آبائهم الذين يرون فيهم رهط متسامحين ومفرطين بدينهم.
زمان... كنت أهرب إلى مدٍّ إسلامي قديم، يخلصني من مستنقعات الجاهلية. أما اليوم فأهرب من مدّ إسلامي جديد، يعيدني إلى المستنقعات نفسها.
عندها يحق لي القول: رُبَّ مدّ خير منه ألف جزر.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.