مدينة السينما الفاضلة

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
سينما "أوتوبيا" لمن لا يعرفها، هي سينما "آرت أند إيسي"، وهو لقبٌ يُمنح لصالات العرض التي تتميّز بانتقاء أفلام سينمائية ذات قيمة فنية، ورسالة واضحة أثّرت في عالم السينما، هي تحقيق لمفهوم السينما البديلة.

وثمّة، في فرنسا، سبع صالات لـ "سينما أوتوبيا"، تصارع من أجل الحفاظ على السينما كفنّ سابع لا كتجارة تهدف إلى الربح. وتتمّيز باستقلاليتها وتوجهاتها السياسية والثقافية، التي تحترم المشاهد وتساعده في بناء ذائقة سينمائية مميّزة عن طريق عرض أفلام من كافّة أنحاء العالم، وخاصّة تلك التي لا تجد من يساندها ماديًا أو معنويًا. 

تعود فكرة التسمية إلى حلم الفيلسوف السير توماس مور بالـ "مدينة فاضلة"، لتتحوّل الفكرة إلى عضو مؤثّر اجتماعيًا وسياسيًا، جعلها من أهمّ دور السينما البديلة في فرنسا. فهي تبتعد نهائيّا عن السياسة المتبعة في دور السينما التجارية الكبرى، التي تعتمد على إيرادات "البوكس أوفيس" وثقافة "البوب كورن".

إذ لا يمكن الأكل أو الشرب في صالات "أوتوبيا"، ولا يجوز التأخّر عن موعد العرض. لا إعلانات تجارية تسبق العرض، وتغلق الصالات حين يبدأ لئلا ينزعج المشاهدون. والأهمّ أن العروض لا تُلغى مطلقًا حتّى لو كان الجمهور محض متفرجٍ واحد. 

بدأت سينما أوتوبيا من "لا شيء" بفضل مجموعة من عشّاق السينما والثوريين الذين يؤمنون بأنّ للسينما دورًا مهمًّا ورئيسًا في التفاعل والتأثير في تغيير المجتمع وانفتاحه على العالم الخارجي. وتأسّست من فكرة وحلم "طوباويين" لعاشقين ثوريين؛ آن ماري فوكون ورفيق دربها ميشيل. لم تكن آن ماري متخصّصة بالسينما، بل كانت تعمل ممرضةً في مستشفى الأمراض العصبية، أمّا ميشيل فكان طالبًا جامعيًا يدرس التاريخ.

ناهض العاشقان الظلم الذي اتسع في فرنسا في بدايات السبعينيات، وخاصّة تجاه العرب والمسلمين والمثليين ووضع المرأة. أثار الظلم في نفسيهما رغبةً فوريةً بالتحرّك؛ فنظّما فعاليّات ومظاهرات من طريق عرض الأفلام التي تطابق ما يحدث في الواقع وقتذاك، من أجل حشد مناهضين يشبهونهما. 

قرّرت آن ماري ورفيقها، - كانا يقيمان في إكس أن بروفانس آنذاك- تحويل الصالة الصغيرة التي كانت الكنيسة تسمح لهما باستعمالها إلى مكانٍ للقاءات سرية، تجمعهما وآخرين من أجل تنظيم فعاليّات تناهض العنصرية وتساهم في تغيير وضع المرأة الفرنسية، مثل المطالبة بحقّها في الإجهاض. رغم التعتيم والحذر الشديدين، وصل الخبر إلى رهبان الكنيسة، فطُرد العاشقان من الصالة الصغيرة على الفور.

بيد أن "كرم" رئيس المعهد الأميركي آنذاك، أنقذهما من الورطة، فقدّم إليهما يد العون، وأقرضهما المال، إذ كان شغوفًا بالأفلام التي كانا يعرضانها. وكان على علمٍ بنشاطاتهما السرية، وعرض عليهما أيضًا استعمال صالة فرع المعهد الأميركي في أفينيون. وفي أفينيون ولدتْ رسميًا أوّل صالة من "سينما أوتوبيا"، ها هنا حوّلت آن ماري ورفيقها ميشيل إحدى صالات كنيسةٍ تاريخيةٍ قديمة إلى صالة سينما، وكان ذلك في عام 1974.

تأسيس الصالة الأولى لم يكن سهلًا، وكان لا بدّ من الاعتماد على إيمان المتطوعين العميق بالفكرة، وعشقهم للسينما البديلة، ورغبتهم في مشاهدة الأفلام بلغاتها الأصلية. فساهم المتطوعون بكلّ ما يملكون من أجل تحويل الفكرة "الطوباوية" إلى واقع. 

وما يميّز الصالات السبع المنتشرة في فرنسا، الطابع المشترك للديكور، واختيار أماكنها، فلكلّ واحدة من الصالات مكان حاملٌ لقيمة تاريخية؛ فصالة أوتوبيا تولوز تعود إلى القرن الثامن عشر، وهي مزيّنة بمنحوتة أبولو مع حورياته التسع. فضلًا عن الأقمشة المخمليّة التي تغطي الجدران، واللوحات الفنيّة القديمة التي عثر عليها ميشيل في سوق الخردة، ولوحات أخرى تخبّر عن الحقبة الاستعمارية وتأثيرها السلبي في تاريخ شعوب إفريقيا. 

قرّر المؤسسان التضامن مع القضية الفلسطينية، لإيمانهما العميق بحقّ الفلسطينيين في النضال، الأمر الذي يظهر واضحًا في المقالات المنشورة سواءٌ على موقع السينما الإلكتروني، أو على صفحات المجلة الشهرية، حيث تكرّس صفحات كاملة لـ "الحرب على غزّة، والتضامن معها"، وصفحات أخرى للتضامن مع الثورات العربية. 

تبدو الأمور واضحة في ذهن آن ماري، إذ قرّرت عام 2010 تأجيل عرض فيلم إسرائيلي كوميدي، وإبداله بفيلم يحكي قصّة المناضلة الأميركية راشيل التي دهستها الدبّابة الإسرائيلية. وأخذت قرارها بناءً على واقع التضامن مع غزّة وأسطول الحرية التركي الذي اعتدت عليه إسرائيل كي تمنعه من إيصال المساعدات الإنسانية لقطاع غزّة. ثار غضب الصحافة الفرنسية، ووصفت الجرائد العريقة: "لوموند" و"ليبيراسيون" ولوفيغارو" سينما أوتوبيا بأنها معادية للساميّة، وتحرّض على معاداة الثقافة الإسرائيلية.

وحدها جريدة "نيويورك تايمز" استقصت الأمر، ودافعت عن سينما أوتوبيا. بيد أن الهجوم لم يتوقف، فاجتمع وفدٌ من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا أمام مبنى أوتوبيا تولوز، ووجهوا الاتهامات وصرخوا عاليًا بعبارات تصف "أوتوبيا" بـ "السينما النازية" و"السينما العنصرية" بل طالبوها بـ "تحرير الجندي جلعاد شاليط".

رغم كلّ هذا الصخب، لم تتلقَ سينما أوتوبيا مساندة من أي جريدة عربية أو حتّى فلسطينيّة! لكنها كسبت أصوات محبّيها المؤمنين بمبادئها الإنسانية ونضالها وانحيازها جهة الحقّ. 

نظّمت "أوتوبيا" العام الماضي، مهرجانًا سينمائيًا للأفلام الوثائقية عن الثورات العربية، وعرضتْ لوحات الفنّان السوري محمّد عمران، ودعت مخرجين وكتّابًا من سورية ومصر وتونس، للحديث عن الثورات العربية.
المساهمون