مدن المعرفة

18 سبتمبر 2015

يتعلم الإنسان في أي مكان باستخدامه لوحاً إلكترونياً (Getty)

+ الخط -
كيف تتشكل المدن بما هي حياة الناس وعلاقاتهم في أعمال الناس ومواردهم القائمة على اقتصاد المعرفة وتقنياتها؟ لم تظهر هذه المدن بعد بوضوح، لكن الأعمال والمهن والتداعيات والتحولات الجديدة تظهر، وكما يهدد الانحسار والانقراض أعمالاً ومهناً كثيرة قائمة، وفي ذلك يمكننا أن نتخيل ونفكر في مدننا القادمة! ولكن، لماذا نفعل ذلك، وما أهميته في صعود تحديات الإرهاب والاحتلال والاستبداد والانقسام التي تخيم على العرب وعالمهم؟ اعتراض منطقي ومهم، لكن حياتنا، بما تقتضيه من ضرورات التفكر والبحث، لا تنحسر أهميتها، ولا تتراجع، بصعود التحديات الكبرى الجاثمة علينا، دولاً وأفراداً ومجتمعات، .. كما أنه تفكير ليس بعيداً عن هذه التحديات والتحولات التي أصابتنا، وليس تجاوزاً القول إن التحولات القائمة، بما فيها من صعود للتطرف والإرهاب، ليست بعيدة عن مرحلة المعرفة، بل هي من تداعياتها وتطبيقاتها أو ثمارها العفنة. وفي المقابل، يمكننا، بل يجب أن نفكر في الاستجابات الضرورية والملائمة لهذه التحديات المفروضة علينا، والتي لا خيار لنا في وجودها وتشكلها، ولا يفيد في شيء تجاهلها، بل يزيد مساوئها، ولو شئت القول إن مبتدأ التفكير في الحلول والاستجابات والمواجهات مع التحديات والأزمات القائمة اليوم يكون بفهم المعرفة وتداعياتها وتحولاتها، فلن يعوزني الدليل.

كانت، ومازالت، الطريق من البيت إلى العمل والعودة إليه تؤثر جوهرياً في المدن وتخطيطها وتشكّلها، وكان الأطفال، ومازالوا، في ذهابهم إلى المدارس وعودتهم وفي متطلباتهم وسعي الآباء على حياتهم، يرشدون المدن وعلاقاتها وتشكلاتها غير المرئية، فماذا سيحدث للمدن والأسر والعلاقات، عندما يعمل ناس كثيرون، وربما معظمهم في بيوتهم، أو قريباً منها، وعندما لا يحتاج الأطفال أن يذهبوا إلى المدارس كل يوم، وفي مواعيد محددة، وربما لن يحتاجوا أن يذهبوا إليها؟
تتضاءل الحاجة إلى الشوارع ووسائل النقل، ويتمركز الإنسان في بيته، ما يجعل هذا البيت موضع إعادة نظر وتصميم، ليلائم العمل والدراسة، ومكوثاً طويلاً فيه، تتسع البيوت وتنكفئ، وتضيق الشوارع إن لم تنحسر، ولا تعود ثمة حاجة إلى إقامة في المدن، فتزدهر الضواحي والأرياف، طالما أن الإنسان يمكنه أن يعمل ويتعلم في أي مكان، ولا يحتاج لأجل ذلك سوى "لوح".. وكأننا نتقدم عائدين إلى عصر القرى والألواح، عندما كان الأطفال يتعلمون، وفي يد كل واحد منهم لوح. واليوم، نعمل ونتعلم وفي يد كل واحد منا لوح، لكنه إلكتروني يحضر لنا كل شيء تقريباً، .. المحاضرات والعلوم والأعمال والموسيقى والأفلام والألعاب والمراجع والمكتبات والأخبار والاتصالات... وقل ما شئت، وكما تشاء، عما يمكن لهذا اللوح أن يفعله لنا.. ويفعله بنا أيضاً.
لكنها ليست قرى وبيوتاً معزولة أو بئيسة، أو لنقل إن المدينة تتسع حتى تكون العالم كله، فإن كانت المدينة، في وظيفتها ومعاييرها الأساسية، تعرف بالخدمات والفرص والتواصل والمركزية، فلن يُحْرَم (أو ينجو) أحد من ذلك كله، تصبح المدينة افتراضية تحاكي الشبكة نفسها، أو تتشكل في الشبكة، وليس في عالم الواقع، أو يكون الواقع هو الشبكة! إنها في الواقع مدن ومجتمعات شبكية.

سوف يكون في مقدور الناس المشاركة والتجمع والتأثير في القضايا والأولويات التي تهمهم، وتشكل حياتهم ومواردهم، الخدمات الأساسية من التعليم والصحة، والرعاية الاجتماعية، والاستهلاك، والانتخابات العامة، والهموم والقضايا المجتمعية والجدل العام حولها، وكذا يمكن، أيضاً، العمل معاً عبر الشبكة في مواجهة الظلم والفساد. أو تتشكل جماعات بلا حدود في وزنها وانتشارها أو مجال اهتمامها، الأحياء والبلدات والحدائق والمكتبات والمدارس والعيادات أو العمل والمهن والتدريب والتعليم، أو تقييم الحكومات والنقابات والبلديات والإدارات والأسواق والشركات،... ويمكن أن تقول الأمر نفسه عن العمل لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو لأجل رسالات معينة، يؤمن بها أصحابها، أو للخدمات اليومية في التوصيل والاستهلاك والاستعلام والتواصل الاجتماعي، فتطور المجتمعات، صغيرة أو كبيرة، مشاركاتها وهوياتها ووعيها ذاتها ووجودها، وتنظم تحركها وتجمعها لتحسين حياتها.. كل ذلك وغيره كثير جداً يجري بلا حاجة للتنقل أو العيش في مكان محدد،.. فعن أي مدن نتحدث اليوم؟
لنبدأ بالحديث عن المساواة شبه المطلقة في المدن الجديدة، في الحصول على المعرفة وإنتاجها والمشاركة العامة والتأثير في المسارات والمصائر، ماذا تفعل تلك المساواة؟ ما الطبقات الجديدة التي تتشكل أو تنقرض؟ ولعل سؤال الدين وعلاقته بالدولة والمجتمعات والأفراد هو اليوم أكثر تطبيقات اقتصاد المعرفة وتقنياتها، ففي واقع الحال، وعلى نحو ما، فإن الصراعات الدينية والجماعات الدينية الصاعدة هي تطبيق للمساواة الشبكية، .. لم يعد الدين أداة سلطوية ونخبوية، ولم تعد المعرفة الدينية سراً مقتصراً على طبقة من العلماء والكهنة، وربما يكون الصراع الديني القائم اليوم هو في حقيقته صراع على الدين الذي فقدته السلطات والطبقات الحليفة لها، وصار أداة فاعلة بيد المهمشين والمعارضين والمتمردين، وربما يكون الحلّ أو المآل تحرير الدين من الصراع وتحرير الصراع من الدين، .. سوف يكون ذلك أمراً حتمياً، ولن يطول المقام حتى يتحول الدين إلى شأن بعيد عن السلطات والجماعات والطبقات، فالشبكية التي حرمت السلطات والنخب من هذا المورد لن تجعله حكراً على الجماعات، أو على أحد من الناس، طالما أنها تتيحه لكل إنسان بلا وساطة أو وصاية من أحد أو هيئة، .. وسلام لسيدي الـ سي دي الذي يجعل بين يديّ كل الكتب والمصادر الدينية منذ بعث الله آدم، وعلى نحو منظم، يمكن استرجاعه بكفاءةٍ، يعجز عن تقديمها الفاتيكان أو الأزهر وكل علماء الدين ورجاله وهيئاته.. في مدينتي هذه، لم يعد يحول بيني وبين الله أحد، ولم أعد احتاج إلى أحد لمعرفة الله.

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"