بعيداً عن ضجيج الحداثة في قطاع غزة، وإلى الشمال منه، يعج مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين بأكثر من 100 ألف شخص هُجروا من أراضيهم المحتلة في العام 1948، يتمركزون في المخيم الذي ضاقت شوارعه بأنفاس ساكنيه بفعل ويلات النكبة، وما تبعها من تسلسل للأزمات الفلسطينية. وعلى غرار المخيمات التي اعتبرت بؤرة النضال الفلسطيني، على مدار سنوات محاربة المحتل الإسرائيلي، كان مخيم جباليا شُعلة النار التي هبّت في وجه مُغتصب أراضي لاجئيه، إذ اندلعت منه الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول العام 1987.
وأنشئ مخيم جباليا في العام 1948، ويقع إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة. ويعد ثاني أكبر مخيمات اللجوء الفلسطينية بعد مخيم اليرموك في سورية، والأكبر داخل فلسطين والقطاع. وتبقى ذاكرة النكبة وسنوات الكفاح لاسترداد الحق المسلوب مرسومة على وجوه قاطنيه. ولم يسلم المخيم من المجازر الإسرائيلية، إذ مرّ بواحدة في 1967، وأخرى في 1968، عدا عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، ومجزرتي 6 و10 مارس/ آذار 2003، واجتياح شمال غزة في 2004، وآخر حدث في 2008، بالإضافة إلى حربي 2012 و2014. اليوم، وبعد حلول الذكرى الـ69 على النكبة الفلسطينية، يشتم السائر في أزقة المخيم الضيقة عبق الانتفاضة. فالبيوت الملتصقة ببعضها ونوافذها الأرضية، وجدرانها المهترئة، وأسطح المنازل المكسوة بألواح "الزينكو"، عدا عن كتابات ومُلصقات وشعارات وضعت على نواصي المخيم، كلها دلائل على حضور النكبة. غير أن الشواهد لا تقتصر على جماد المخيم، فالأحياء في جباليا يتذكرون جيدًا يوم 15 مايو/ أيار، بتجاعيدهم التي جمّلت وجوه بعضهم، وأبقت النكبة حاضرة بين أزقته ومتأصلة في جلسات الصباح، على صراخ الجارة على أولادها، وأخرى مما تحمله أخبار الإذاعات الفلسطينية.
مُرور عابر في شوارع المخيم صباحاً، يجعلك تسترق النظر إلى طقوس اللاجئين فيه. بائع متجول على دابته، وآخر يفتتح محلّه الصغير الذي أكل الصدأ بوابته، وآخرون يقفزون من عتبة إلى أخرى، هاربين بهندامهم المُرتب من المياه التي تسرّبت من أسفل أحد منازل المخيم، ضمن روتين التنظيف اليومي. الأمر يتعدى ذلك إلى زوايا المعاناة في المخيم، والتي تظهر في طوابير اللاجئين الذين اصطفوا أمام دوائر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بعضهم يتساءل عن تعويض بطالة عمل، وآخرون ينتظرون دورهم في الحصول على المعونة الأممية، ودائرة أخرى تنتظر فيها أمٌ ورضيعها أذونات العلاج في عيادة المخيم الرئيسية التي تديرها "الأونروا". وخلال الجولة القصيرة، تأخذك قدماك إلى السوق المركزي. فالنظرة الأولى له تجعل الأعين تلمع بخضار البلاد، فيما الحمضيات تجعل النفس تتوق لعناق روائحها، لكن سرعان ما تتبدل النظرة برؤية حاج يجلس خلف طاولته واضعاً يده على خده، كأنه يتذكر مآسيه الفلسطينية. ومع كل أشكال المعاناة لم تغِب الحداثة في المحال التجارية الفارهة والعمارات السكنية عن مخيم جباليا، إلا أن تلك التحديثات لم تستطع تغيير الوجوه البائسة للفلسطينيين هناك، فالأزمات العامة التي ضربت قطاع غزة أبقت الصورة الشاحبة في مخيلتهم، وجعلت من اليأس عنواناً على جبينهم.
وفي أعقاب النكبة الفلسطينية، قامت وكالة "الأونروا" بتوفير مراكز طبية فيها عيادات مختلفة لسكان مخيم جباليا، غير أنها لا تقدم الخدمات الطبية الكبيرة. كما أوجدت 13 مدرسة للمراحل الابتدائية والثانوية، وخمس أخرى للمرحلة الإعدادية، بينها مدرستان تقعان خارج حدود المخيم. ويبقى جباليا، كما يلقبونه بـ"مخيم الصمود"، شاهداً على ويلات النكبة في العام 1948. وتبقى ذاكرة المعاناة الفلسطينية متجذرة في عقول قاطنيه، حتى وإن كان علقم الحياة شبحاً يطاردهم في سنين نضالهم وصمودهم في وجه الاحتلال الإسرائيلي وحصاره وتداعيات حروبه. ومخيم جباليا ليس انفراداً، فكل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في الداخل والخارج، تتشارك في المعاناة ومآسي النكبة والنكسة والألم، لكنّ الإصرار فيها على العودة إلى فلسطين التاريخية لا تكسره هموم ومشاكل الحاضر، والنسيان سمة لا يعرفها اللاجئون طوال أعمارهم.