مخيم اليرموك والحصار المعلن
تفنّن بعضهم باختراع مصطلحات للتعمية على واقع الحصار، فهناك مَن ابتكر مصطلح "المخيم المختطف"، في إشارة إلى وجود جماعات مسلحة تختطف مخيم اليرموك، من دون تطرّق إلى الحصار الذي يفرضه النظام السوري على المخيم من خارجه، وسلّم بعضهم بأن وجود عناصر مسلحة هو سبب الحصار، وبالتالي، الحصار مشروع ومبرر. وقرر آخرون تجاهل الأزمة، والاكتفاء بعدّ ضحايا المخيم، من دون الإشارة إلى الجناة، واكتفى غيرهم بالعمل الإنساني الإغاثي على مبدأ أضعف الإيمان. فما حقيقة ما جرى في اليرموك، وكيف كانت العلاقة بين المخيمات ومنظمة التحرير والفصائل، عشية اندلاع الأزمة في سورية؟
العلاقة بين مخيمات سورية والفصائل والمنظمة
زادت طبيعة العلاقة المأزومة بين سكان المخيمات والفصائل الفلسطينية من كارثية الأزمة التي تعرضت لها، حيث كان هناك اغتراب وشبه قطيعة بين الفصائل وجمهور المخيمات، فبعد اتفاق أوسلو وانتقال مركز الثقل الفلسطيني إلى الداخل، تم اختزال منظمة التحرير بالسلطة الوطنية الفلسطينية، ومع انكشاف نفق المفاوضات المظلم، بدأت جماهير المخيمات في الشتات تشعر بخيبة الأمل، فابتعدت عن المنظمة وعن الفصائل. واستطاعت هذه المخيمات أن تدير شؤونها، وتتخذ مواقفها تبعاً للمزاج الشعبي الفلسطيني، وهو المزاج الذي كان، على الدوام، أكثر وعياً واستشرافاً ممّا كانت تذهب إليه القيادة السياسية، إذ ينطلق من المصلحة الوطنية والاجتماعية لجماهير المخيمات، في حين كانت الفصائل تحدد مواقفها انطلاقاً من الحسابات الضيقة والفصائلية المقيتة. لذا، لم يكن في وسع أي فصيل سياسي الادعاء بأنه قادر على التأثير على حركة الشارع الفلسطيني في الشتات، أو تكوين رأي عام جامع حول قضية ما، إلا ما ندر. تعمّق هذا الشرخ، بعد إحباط انتفاضة الأقصى، وبات أكثر وضوحاً في ظل الانقسام الفلسطيني، إذ يعتبر جمهور المخيمات من أكثر المدافعين عن الوحدة الوطنية، وقد دفع في الثمانينات أثماناً باهظة للحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية.
كيف تعامل "اليرموك" مع الأزمة
في ظل الواقع الأنف الذكر، لاذت الفصائل الفلسطينية بالصمت، وعدم التعبير عن أي موقف علني، حيال ما يجري في سورية، فيما اتجه المزاج الشعبي الفلسطيني، بغالبيته العظمى، إلى انتهاج سياسة الحياد الإيجابي، بمعنى أنه لم يتدخل مباشرة في الأزمة. وفي الوقت نفسه، كان هناك تعاطف ضمني مع الحالة الشعبية، خصوصاً عند سماع أنباء سقوط ضحايا بين صفوف المدنيين السوريين، في ظل وجود نسيج اجتماعي واحد بين الفلسطينيين والسوريين، خرجت تظاهرات عديدة في الأحياء السورية في محيط المخيم، منها الحجر الأسود، التضامن، يلدا، ببيلا، القدم، حافظ المخيم على المزاج الشعبي الحيادي، فيما استفز تدخل القيادة العامة جماهير المخيم. ومع انتشار أنباء عن اختطاف وتصفية مجموعة من شباب جيش التحرير الفلسطيني من مخيم النيرب، ازداد الاحتقان بشكل كبير، خصوصاً أنه كان متوتراً بعد الأحداث الدامية التي حصلت في أثناء تشييع شهداء المخيمات الذين سقطوا في الجولان، عشية إحياء ذكرى النكسة، فخرجت مسيرة كبيرة في المخيم كردة فعل عفوية عبّرت عن التمسك بالحياد الإيجابي، ورددت شعارات من نمط "فلسطيني وسوري واحد".
ظل سكان مخيم اليرموك في حالة ترقب وخوف، إلى أن اقتحمت قوات النظام السوري حيي التضامن والحجر الأسود. وبالمناسبة، هذه الأحياء متداخلة مع المخيم، حتى أن سكانها خليط من الفلسطينيين والسوريين. وفي هذه الأثناء، نزح عشرات الآلاف من سكان التضامن والحجر، فتح أهل المخيم بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم لاستقبال النازحين، وقام المخيم خلال ساعات بجهد إغاثي تعجز عنه الدول، وتشكلت لجان للإغاثة ضمت مئات الشباب الفلسطينيين الذين عملوا تحت شعار العمل الإنساني، وقد منع هؤلاء الرجال ممّن يريدون تقديم المساعدات للمنكوبين من دخول المدارس ومراكز الإيواء، بتصرف واع وحكيم، وبرروا ذلك بالقول إنهم لا يريدون أن يكون لدى النظام حجة بأن هذه المراكز تحوي مسلحين، وذلك لحماية المدنيين من أي ردات فعل محتملة، بيد أن القصف المدفعي وقصف الطيران الذي تركز على "التضامن" و"الحجر" راح يطال المخيم بين حين وآخر. ومن أبرز الحوادث، كانت مجزرة شارع الجاعونة التي وقعت مع أذان المغرب في رمضان 2012، فيما دمرت بيوت كثيرة في شارع فلسطين الذي يفصل المخيم عن "التضامن"، وتضررت بيوت الفلسطينيين في شارع الثلاثين وغرب اليرموك، خاصة بالمنطقة التي تفصل المخيم عن الحجر الأسود. بدأت أزمات الغذاء والوقود بالتفاقم، وخصوصاً أزمة الخبز وأسطوانات الغاز التي تستعمل للطهي في المنازل، وذلك كله بغياب الفصائل الفلسطينية عن دائرة الفعل والتأثير، حيث اكتفى الأعضاء المنتمون للفصائل بالانضمام إلى لجان الإغاثة الشعبية الطابع، إضافة إلى القيام بأعمال تنظيف الشوارع وإزالة النفايات التي تراكمت في الطرقات، في حين لم يكن هناك أي توجه سياسي واضح حيال هذا الواقع الذي بدأ يقحم المخيم بالأزمة السورية.
شعرة قصمت ظهر البعير
في ظل الاشتباكات المتقطعة في محيط المخيم، وتفاقم أزمة الغذاء، وتقلّص فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة، بدا مصير المخيم مجهولاً، فراح كثيرون من أهل المخيم يفكرون بالرحيل، ومنهم مَن رحل فعلاً، سواء إلى لبنان، أو إلى مناطق داخل دمشق أكثر أمناً من اليرموك. وفيما حافظت منظمة التحرير على صمتها، قررت حركة حماس مغادرة الساحة السورية، فأصبحت المخيمات الفلسطينية بلا مرجعية سياسية، وبدأت الاجتهادات كل حسب وعيه وموقفه من الأزمة، فنشأت حالة فوضى وتخبّط وعدم يقين، وكثرت الشائعات والأقاويل التي كانت تحرك، أحياناً كثيرة، مجاميع بشرية من منطقة إلى أخرى، وهذا ما زاد من حالة الهلع والخوف بين السكان، وخصوصاً الأطفال والنساء، فيما اكتفى الإعلام الفلسطيني بعدّ الضحايا من الفلسطينيين، من دون ذكر الأسباب، أو تحميل المسؤولية لطرف بعينه عن هذا الحادث أو ذاك.
رفعت المعارضة السورية المسلحة شعار "الطريق إلى دمشق يمر عبر مخيم اليرموك"، فيما كانت المناشدات على أشدها من لجان العمل الإغاثي بعدم زج المخيم بأي صراع مسلح، وإبقائه منطقة آمنة لجميع المدنيين من الذين نزحوا من المناطق المجاورة. لم تكن تلك المناشدات كافية لعدم زج المخيم في أتون الحرب، واستمرت الاشتباكات المتقطعة على وقع الشائعات بأن المعارضة السورية المسلحة سوف تشن هجوماً كبيراً لتحرير المنطقة الجنوبية.
وبالفعل، أحرزت المعارضة تقدماً على جبهات يلدا وببيلا والحجر الأسود والتضامن، وبطبيعة الحال، القدم، السبينة، حجيرة، السيدة زينب، أما الحدث الأكبر الذي أدى إلى نزوح جماعي من المخيم، فكان قصف طائرات الميغ جامع عبد القادر الحسيني والربع المحيط به منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2012، وهي منطقة إغاثة بامتياز، فعلى بعد خمسة أمتار من الجامع، تقع مدرسة الفالوجة التي كانت تضم مئات الأطفال والنساء، وفي محاذاتها مدرسة ترشيحا، وقبالة الجامع يقع مشفى الباسل الذي كان يعالج الجرحى والمرضى، فيما التجمع الأكبر للمدارس التي تحوي لاجئين كان يبعد عن الجامع مئتي متر، حيث مدرسة القسطل والجرمق والمنصورة. وكانت كل هذه المدارس تضم نازحين من التضامن والحجر، وأعلن النظام السوري أن الغارة استهدفت "مسلحين إرهابيين". وفي الليلة التي تلت القصف، جابت مجموعات كبيرة لم تعرف هويتها المخيم، وراحت تدق على الأبواب، وتطالب الناس بالرحيل، محذرة من موجة جديدة من قصف الطيران، مع اشتداد المعارك والقصف المدفعي. وذلك كله ولّد حالة هلع كبيرة أدت، في الصباح الباكر، إلى نزوح جماعي لسكان المخيم، وصف بالنكبة الثانية.
في ظل حالة فوضى كبيرة حصلت، تقدمت قوات المعارضة المسلحة من الحجر الأسود ومناطق أخرى، واحتلت مبنى الخالصة في شارع الثلاثين التابع للقيادة العامة، وانشق عدد كبير من القوات التابعة لها لتلتحق بصفوف المعارضة، ودخل المخيم بشكل مباشر بالصراع المسلح، وتمركزت قوات النظام على مدخل المخيم، المعروف بدوار البطيخة، وفُرض حصار متقطع على المخيم، حيث كان يسمح، على فترات، للناس للخروج، وجلب الخبز من فرن الزاهرة، إلى أن احتدمت المعارك أكثر فأكثر، وأغلق المخيم بشكل كامل وأصبح ساحة حرب، فتشكلت ألوية قتالية عديدة، تحت مسميات متعددة، ودخلت المواجهة مع النظام.
وفي ظل اختلاط الأوراق، ظهرت عصابات سلب ونهب عديدة، فالمخيم يحوي مواداً غذائية تكفيه سنوات، معظمها نُهب وأُخذ إلى مستودعات خارج المخيم لتجار الحروب والأزمات، وبدأ هؤلاء ببيع تلك المواد الغذائية بأثمان باهظة، في ظل توقف العمل وعدم قدرة الناس على الشراء، حيث وصل، في أحيان، كلغ الرز إلى 9000 ليرة سورية، أي ما يعادل 80 دولاراً، فخاض شبان كثيرون مخلصون، تطوعوا لحماية المخيم، معارك على جبهتين، جبهة مع النظام والقوات التي تحاصر المخيم، وجبهة مع اللصوص وتجار الحروب الذين لا عمل لهم سوى نهب بيوت المخيم ومدخراته الغذائية. ليسجل التاريخ موت أهل المخيم جوعاً، بسبب الحصار المضروب عليه من الخارج، وبسبب تجار الحروب. واللافت في هذه الحرب وهذا الحصار أن معظم الضحايا الذين جرى استهدافهم في المخيم هم من نشطاء العمل الإغاثي الإنساني، وأعضاء تنسيقيات الثورة السورية الشعبية ومؤسسيها، فبدت هذه الحرب وهذا الحصار على أنه انتقام من المخيم، لدوره الذي لعبه على مستوى الإغاثة. وحتى اللحظة، وبعدما تم التوصل إلى اتفاقات عديدة لوقف إطلاق النار من دون رفع الحصار، حتى اللحظة يستمر استهداف وقنص واغتيال مَن وهبوا أنفسهم للعمل الخيري، هؤلاء غير قادرين على التحصن كما يفعل المقاتلون، من الطبيعي أن يظهروا علناً، لأن عملهم بين الناس يحتّم عليهم ذلك، حتى بات كل ناشط في العمل الإغاثي مشروع شهيد أو معتقل شهيد على الأغلب. وارتكبت جماعات مسلحة متطرفة جرائم بشعة، حيث نفذت عمليات إعدام في الطرقات لبعض الشباب، وبغضّ النظر عن التهم الموجهة إليهم، وكان الأمر مستفزاً لسكان المخيم، خصوصاً أنه يتم تنفيذ ذلك في وضح النهار، وأمام أعين الأطفال والنساء.
الهدنة وشهداء الجوع
بعد عام متواصل من القتال والحصار، بدأت ترد من مخيم اليرموك أنباء عن شهداء الجوع، فبذلت جهود كبيرة من داخل المخيم وخارجه للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سبتمبر/ أيلول 2013. بعد التوصل إلى اتفاق الهدنة، أوفدت منظمة التحرير وزير العمل في السلطة الفلسطينية، أحمد مجدلاني، للتواصل مع النظام السوري بهدف تسهيل دخول المواد الغذائية للمخيم، مع عدم ثبات اتفاق الهدنة نهائياً. باءت جهود المجدلاني بالفشل، وعقد مؤتمراً صحافياً في 14/1/2014. وعقّد تصريح المجدلاني الأمور، بدل أن يصلحها، لأنه أظهر انحيازه للنظام وحمّل المسؤولية لطرف واحد، هو جبهة النصرة، عن فشل دخول المساعدات. والحقيقة أنه كانت هناك مغالطة كبيرة، حيث لم تكن المنطقة التي حددت للمجدلاني لإدخال المساعدات مدخل المخيم الرئيسي، بل كانت من جهة حجيرة والحجر الأسود، وهي خارج نطاق اتفاق التهدئة، وتبعد عن المخيم عدة كيلومترات، أي ليست تحت سيطرة الجهات التي وقّعت اتفاق التهدئة من داخل المخيم، والتي لبّت الشروط المتّفق عليها لإدخال المساعدات من المدخل الرئيس للمخيم، بيد أن منظمة التحرير وجدت في الحادثة مبرراً لتعفي نفسها من مسؤولية رفع الحصار عن المخيم، واكتفت بأقوال المجدلاني إن "المخيم مختطف من عصابات إرهابية".
ولعب الانقسام الفلسطيني والمناكفات بين حركتي فتح وحماس دوراً كبيراً في تحديد موقف السلطة المتقاعس عن نجدة المخيم. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار الدور المعطل لجبهة النصرة لاتفاق التهدئة في المخيم، حيث كانت هناك مصلحة مشتركة بينها وبين النظام والجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، لتعطيل اتفاق التهدئة في المخيم، ثم ما معنى أن تقبل القيادة نفسها من جبهة النصرة اتفاقات التهدئة، وتقودها في المناطق المجاورة للمخيم، مثل يلدا وببيلا، وتعطلها في المخيم.
وفي الوقت نفسه، هل يبرر وجود "النصرة" وغيرها سياسة العقاب الجماعي التي ترتكب بحق أبناء المخيم الذي يضم في ظل الحصار أكثر من عشرين ألف فلسطيني وحوالي سبعين ألف سوري. وقد واصلت هيئة العمل الوطني عملها داخل المخيم وخارجه، وتمكنت من إخراج عشرات الجرحى والمرضى، وإدخال مئات الحصص الغذائية تحت وابل القصف، والكل يذكر الصورة التي وصفت بصورة القيامة، حيث هرع آلاف الناس إلى مدخل المخيم لاستلام "كرتونة" الغذاء التي أصبحت عنوان الحياة، وفي الوقت نفسه، رمزاً للذل والمهانة التي يتعرض لها سكان المخيم، في ظل الحصار الذي تفاقم مع انقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب.
وعلى الرغم من توقف المعارك، إلا أن مخيم اليرموك ما زال تحت الحصار، وتحت رحمة الجوع وتجار الحروب، وتحت رحمة القصف والقنص والاشتباكات المتقطعة. إذ تعتبر جميع الأطراف المخيم ورقة سياسية، إلا منظمة التحرير والقيادة السياسية الفلسطينية، حيث ما زالت لا تتعامل مع ملف المخيم كملف سياسي من الطراز الأول، حتى أنه من الملفات التي يمكن التوجه بها إلى المجتمع الدولي ومجلس الأمن بهدف التحرك العاجل لوقف تلك المأساة المستمرة.