مخيم اليرموك ...التاريخ والمحنة

10 يوليو 2016
(عمّان، دار فضاءات، 2016)
+ الخط -
منذ نشوئه، على أطراف العاصمة السوريّة دمشق، منتصف خمسينيات القرن العشرين، شكّل مخيّم اليرموك، بهويّته الفلسطينيّة، مَعلَما بارزًا من معالم هذه الهوية، وواحدا من ملامحها الأساسية في الشتات، حتّى استحقّ، بجدارة، اسم المخيّم الملقّب بـ"عاصمة الشتات الفلسطينيّ"، من جهة، في الوقت الذي ظلّ قادرا على أن يكون تجمّعا "فلسطينيّا سوريّا"، بل أحد مكوّنات المجتمع السوريّ، من جهة ثانية، إلى درجة الالتحام، وعدم وجود إمكانية للفصل بين "الشعبين"، وهو ما ظهر جليّا مع "ثورة الشعب السوريّ"، حيث برز الجدل حول إمكانية "تحييد" المخيّم عمّا يجري، وكان الواقع هو الكفيل بالجواب، فقد كان انخراط المخيّم في "الصراع" أكثر من مجرّد ورقة في يد هذا الطرف أو ذاك، إذ تبيّن أنه طرف ولاعب أساسيّ في ما يحدث.

في كتابها "مخيم اليرموك - عاصمة الشتات الفلسطيني"، تذهب الكاتبة الفلسطينية مجد يعقوب، بنت المخيّم ولادة ونشأة، إلى جذور النكبة الفلسطينية التي قادت "اللاجئين" إلى هذا المخيّم، إذ تبدأ من عنوان "شعب متجذر في أرضه"، لتروي تفاصيل من تاريخ الفلسطينيين وتاريخ اليهود، ومصير فلسطين وتهجير شعبها. وفي عنوان "إخراج الشعب الفلسطيني من أرضه وتهجيره"، تتناول الكاتبة حكايات الصهيونية وأساطيرها، وتمنح مساحة لقصة "الخروج الآخر"، كما يسميها الصحافي الأيرلندي "إرسكين شلدرز"، يعني قصة تهجير الفلسطينيين من وطنهم، والأساليب الإرهابية المستخدمة لإحداث هذا التهجير، من براميل عصابة أرغون وغيرها، إلى الحديث عن مخيمات الداخل، وقرارات حق العودة، وصولا إلى "مراحل" إقامة المخيّم.

ما يعنينا من هذا الكتاب، في صورة أساسيّة، هو فصل "مخيم اليرموك، التاريخ والمحنة"، وهو الفصل الذي يروي "حكاية" النشأة والتركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمخيم، فضلا عن بعض الشهادات التي تناولت المخيم، من دون القفز عن المآلات التي وصل إليها المخيّم في ظلّ ما يجري اليوم لسورية كلّها.

التأسيس والمكوّنات
بعد رحلة مأساوية من فلسطين "المنكوبة"، عبر جنوب لبنان غالبا، وصولا إلى المدن السوريّة، كان نصيب بعض "النّاجين" الوصول إلى حيّ "المزّة" الدمشقيّ، وفيه كانت الإقامة الأولى، موزّعين بين البيوت والمشافي والمساجد، قبل بدء الزحف في اتجاه ما صار لاحقا "مخيّم اليرموك"، بعشرات الآلاف من اللاجئين، جاء أغلبهم من مدن شمال فلسطين (صفد، الناصرة، طبريا، اللد، الرملة، وبيسان)، حاملين أسماء مُدُنهم، وأسماء القُرى، لتغدو في المخيّم، أسماء شوارع ومعالم ذات خصوصية فلسطينية واضحة، وعلامات على طريق العودة.
الحالة الإنسانية للمخيّم وأهله، تحتل المساحة الأساسية في كتاب مجد هذا، لكن التكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي حاضر فيه بقوّة. فمع البدايات الأولى للتأسيس، كان ثمّة "تقسيم" على أساس المناطق التي جاء منها هؤلاء اللاجئون، إذ جرى توزيع البيوت عليهم مع مراعاة "التوزيع العائلي والعشائري أو القروي والمناطقي". ولعلّ من يعرف "خريطة المخيم"، يستطيع الاستدلال على مناطق للوافدين من غير الفلسطينيين، خصوصا من أبناء المناطق السوريّة الفقيرة، فالمخيّم "تجمّع سكّاني مختلط مع أبناء المناطق الدمشقية الفقيرة".

اقتصاديّا، ومنذ مرحلة مبكرة في تكوينه، شهدت حياة المخيّم تحوّلات وتطورات عدّة، لكنها شهدت "طفرات" غير عادية، وتحديدا عندما شهد النشاط الاقتصادي في المخيم زحف ما يسمّى "الرأسمال الدمشقي" إليه، مترافقا مع ما جلبه إليه محدثو النعمة، بفضل "أموال المغتربين إلى الدول النفطيّة، وموظّفي الأونروا الذين استطاعوا تنمية مدّخراتهم بعد استثمارها، أو زعماء الفصائل السابقين"، وهو محصلة ونتاج "حَضْرنة" المخيم، و"تراجع نفوذ الوجيه أو الزعيم العشائري التقليدي، بما في ذلك المخاتير"، كما أنه، في الوقت ذاته، من المؤثرات التي عزّزت هذا "التحضير" للمخيّم، ضمن تداخل العاملين الاقتصادي والاجتماعي وتفاعلهما معا.

أمّا المكوّن الثقافي للمخيّم وسكّانه، فقد ارتبط، منذ البداية، بهيئات ومؤسسات ذات طابع اجتماعي أو رياضي، لكنّ الإسهام الفلسطينيّ في الحياة الثقافيّة السورية، تعدّدت جوانبه، وكان هناك الشعر والقصة والرواية والنقد. لكنّ الجانب الأبرز تمثّل في المشهد "الدراميّ" السوريّ، التلفزيونيّ والمسرحيّ، متمثّلا في طاقات كتّاب (هاني السعدي)، وممثّلين كبار (يوسف حنّا، عبد الرّحمن أبو القاسم، أديب قدّورة، وزيناتي قدسيّة، وسواهم). وفي مجال الفنون الشعبية التراثيّة، برزت فرق مثل "العاشقين" و"بيسان" و"حنين". ومثلما تعدّدت المنتديات الثقافية، وربّما كان أبرزها نادي الشهيد غسان كنفاني، ومنتدى القدس الثقافيّ، والمنتدى الثقافي التقدمي، وغيرها، تعدّدت المكتبات العامّة التابعة للفصائل والأندية، ودور النشر الخاصّة، مثل "دار الشجرة" و"جفرا" وغيرهما. وكما كان لهذه الإسهامات دورها في إثراء الحياة الثقافية للمخيم، كان للتعليم، في مستوياته المتعددة، تأثيراته على بناء حياة الأجيال المتعاقبة من أبناء المخيّم.

شهادات وذكريات
يشتمل الكتاب على شهادات عدد ممّن عاشوا فيه، أو تعرّفوا عليه عن كثب، فضلا عمّن ولدوا فيه. ولعلّ الشهادة الأعمق، على المستويين النظريّ والعمليّ، هي شهادة أحمد برقاوي، هذا إضافة إلى شهادات من سعيد البرغوثي، والأختين نادية وماري عيلبوني، وغيرهم.

برقاوي، المولود في ضاحية الهامة - دمشق في 29/4/1950، انتقل مع العائلة للإقامة في مخيم اليرموك بعد حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وهو شاعر (له مجموعتان هما "أنا" و"لعبة الحياة")، يحمل درجة الدكتوراه "في الفلسفة المعاصرة"، وأستاذ تاريخ الفلسفة، ورئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق، وظل يعمل أستاذا فيها حتى فصله منها بسبب انحيازه للثورة السورية ومغادرته عام 2013.. يقدّم وعيه وفهمه للمخيّم، بوصفه حالة تجمع السياسيّ والإنسانيّ والوجوديّ (الأنطولوجي) في كيان واحد. يقول إن "المخيم هوية وانتماء وشعور ممضّ بالمؤقت، المكان المؤقت يحافظ على هويتك الدائمة، وهذا هو معنى العودة.."، كما أن المخيم، بالنسبة إلى برقاوي "هو مكان اللاجئ من فلسطين، الذي يجب أن يكون نقطة الانطلاق إلى فلسطين". وهو أيضا "أرشيف الفلسطيني الذي يحفظ فيه ذاكرته الوطنية".

ويرى صاحب "أنطولوجيا الذات"، أن ما يسمّيه "جمالية الانتظار" تخفّف "عن الفلسطيني عنف اللامكان"، بل إن الفلسطينيّ اللاجئ يعيش، وعلى نحو نادر "متعة الانتظار"، ويتوارثها، و"غالباً ما تتساوى لديه الأمكنة، لأن كل مكان على هذه الأرض هو مكان انتظار وليس مكان إقامة". وهو يتناول "العودة" بوصفها مفهوما "لا يرتبط بالحنين، إلا لدى الأجيال القديمة"، أما الأجيال التي ولدت بعد النكبة، وهي النسبة الأكبر من الفلسطينيين، والتي ليس لديها شعور بالحنين، فالعودة بالنسبة إليها تشكل "هدفا سياسيّا - وطنيّا، وخيارا وجوديّا، وفلسفة حياة". ويرى برقاوي أن "عذابات اللاجئ، تمنحه عالماً من الحرية إزاء السلطة العربية لا تتوافر لمواطنيها"، مبرّرا ذلك بأن "اللاجئ الفلسطيني، مهما التزم بقوانين دولة اللجوء، يظل محتفظاً بشعور الطائر. إنه الوحيد الذي يشعر أن السُّلطة الحاكمة لا تمثله. بل ينطوي الفلسطيني على شعور بالاحتقار لجميع السُّلَط العربية، فكل السُلطات تراه خطيراً، تعقّد أمور سفره، وأمور إقامته. رفض السُلطات لك يحملك على قول "اللا" دائماً". ويختم بحكاية رحلته من المخيم إلى رام الله/ فلسطين، معتبرا أنه "يوم حُفر في ذاكرتي وفي روحي حفراً عميقاً.. يوم الأحد (الثامن من نيسان/ إبريل 2012)، هو يوم أشبه بالصورة البارزة في تاريخ حياتي"، لذلك فالرحلة كانت "رحلة العودة الحقيقية، من الأرشيف الى الحياة".

وفي ما تبقّى من شهادات، يغلب على الكثير منها الطابع "الإنشائيّ" العاطفيّ والانفعاليّ، تستوقفنا شهادة سعيد البرغوثي (مواليد صفد 1940، مؤسس ومدير دار كنعان للنشر/ دمشق منذ العام 1989). يطلق البرغوثي على اليرموك لقب "شيخ المخيّمات"، ويستذكر منه ما يسمّيه "مكتبات العشّاق"، مستعيدا ذكرياته عن استشهاد أصدقاء مثل أيمن موعد صاحب "مكتبة الحرية"، وغسان الشهابي صاحب "دار الشجرة"، ومتوقّفا عند "بصمات لا تُمحى" لعدد من المبدعين الفلسطينيين من أبناء المخيّم، منهم الناقد يوسف سامي اليوسف، فيصل دراج، والدكتور يوسف سلامة، ومن معالم اليرموك يستعيد "مركز صامد للتراث الفلسطيني"، وبعض من سكنوا في مقبرة الشهداء.

المتميّز في شهادة الأختين "عيلبوني"، الإشارة إلى كونهما من عائلة هي الوحيدة المسيحيّة في محيطها، وترسمان صورا صنعت وعي المسيحيّ في المخيّم، بوصفه فلسطينيّا أوّلا قبل أن يكون مسيحيّا، إذ تتم استعادة صورة "محمد العايدي، أبو محمود، يطرق باب بيتنا حاملا شجرة عيد الميلاد"، ومعايدته للعائلة "كل عام وانتو بخير.. العيد الجاي في عيلبون"، أو صورة "معلمة اللغة العربية ترسل بطاقة معايدة بالفصح المجيد"، أو الجارة أم العبد تشعّ حبا وعطاءً وهي تقول إنّ "الله لا يسأل عن الدين، هو يستجيب للقلوب النظيفة"، وصورة تشييع والدهما أبو خليل "على الأكتاف.. لا في سيارة دفن الموتى..". والأهمّ هو رفض العائلة الانتقال إلى بيت في باب مصلّى ذي الأكثرية المسيحية، والإصرار على البقاء في المخيم للارتباط بالأكثرية الفلسطينية، وتعزيز وجود "فلسطين قبل الدين".

وتختم المؤلفة فصل الشهادات بشهادة عن "حضورها" هي في المخيّم، منذ ولادتها فيه، ونشاطها في فرق الغناء، وفي فريق كرة اليد في نادي غسان كنفاني، حتّى انتقالها للعمل والعيش في دولة الإمارات بسبب سوء الظروف الماديّة/ المعيشيّة لها ولأبنائها في المخيّم. وصولا إلى زيارتها الأخيرة للمخيّم (2008) التي اعتبرتها "وداعية"، وقد شاهدت فيها التحولات الصادمة، حيث "صديقات التمرد في جلابيب وانكسار، القرآن والأناشيد الدينية حضور مبالغ فيه، اللحى والسبحات والدشاديش، حماس والجهاد الإسلامي مع الشباب والدولارات والبطالة ومساعدة العائلات المحتاجة.."، والعودة إلى الشارقة "وأنا أقرأ السلام على مخيم اليرموك".

وإلى شهادات أبناء المخيّم، نقرأ شهادات أصدقاء المخيّم، الشاعرة الإماراتية ظبية خميس، وشهادة الكاتب البحريني حسن مدن، والجزائري محمد حسين طلبي.

(كاتب وشاعر من الأردن)



المساهمون