محنة الطبقة الوسطى

12 مايو 2014

Contributor:Imagezoo

+ الخط -
رمت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في زيارتها، الأسبوع الماضي، المغرب، حجراً كبيراً في البركة المغربية، والعربية عموماً. فقد قالت، في ما يشبه دق ناقوس الخطر، إن "الطبقة الوسطى في المنطقة العربية تضعف يوماً بعد آخر، وثمار النموّ لا تصل إلى الجميع، وهذا اختلال خطير، ويهدد بقيام ثورات وانتفاضات واضطرابات".
ما قالته ليس اكتشافاً جديداً، فقد بُحّت أصوات كثيرة، تدعو الأنظمة العربية إلى رعاية الطبقة الوسطى، ووضع برامج تنمية وسياسات عمومية، تسمح لهذه الكتلة الحرجة في المجتمعات من النمو والاتساع، لأنها صمام الأمان للخروج من الأزمة العميقة التي تضرب العالم العربي. لكن الجديد في تصريحات لاغارد أن منظور صندوق النقد الدولي لمشكلات التنمية في العالم العربي بدأ يتغيّر، وأن الثورات العربية فتحت أعين المؤسسات الدولية على الأعطاب العميقة للاقتصاديات العربية، وكشفت أمامهم الكلفة السياسية الباهظة لفشل التنمية اليوم.
كلما اتسعت قاعدة هذه الطبقة الطموحة، تعزز الاستقرار، ونجحت الديموقراطية، وانتعش اقتصاد الإنتاج، واتسع السوق الداخلي، واتجهت فئاتٌ كثيرة في المجتمع نحو الاعتدال والتفاوض والعقلانية، لأنها تخشى من خسارة امتيازاتها، وترى، دائماً، أمامها فرصاً للتعويض، وآمالاً للتقدم، وإمكانات للتعايش مع غيرها، وكلما تقلصت قاعدة هذه الطبقة في أي مجتمع، اتسعت عوامل الاضطرابات، وازدادت المسافة بين الأغنياء والفقراء، فتنضج الاضطرابات والانتفاضات على نار هادئة. فمَن لا يملك أي شيء لا يخشى ضياع أي شيء. وهنا، يطل التطرف والتعصب، ومعهما الاستبداد، ثم يقابل استبداد السلطة عنف المعارضة، وتدخل المجتمعات في دوامة أزماتٍ متلاحقة، لا تخرج منها.
بعد الحرب العالمية الثانية، اتجهت الأنظمة في أوروبا إلى دعم الطبقة الوسطى، وتوسيع رقعتها، خوفاً من اكتساح الشيوعية بلدانها. بعد مدة، اكتشفت أن هذه الطبقة صارت العمود الفقري للتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذكاء الرأسمالية دفعها إلى تصحيح بعض أخطائها، والاستفادة من نقد الماركسية لها، وذلك بتوزيع جزء من القيمة المضافة المتحصلة من النشاط الاقتصادي على أوسع الفئات الاجتماعية، وتهيئة الأخيرة للعمل أكثر، وللاستهلاك أكثر، وللدفاع عن الاستقرار أكثر. ونرى، اليوم، كيف يصوّت العمال، وحتى الفقراء، على مرشحي اليمين البرجوازي في الانتخابات، لأنهم يرون برامجهم قريبة من تطلعات هذه الفئات، فيبتعدون عن أحزاب اليسار والحركات الشيوعية.
الديموقراطية وصندوق الاقتراع جعلا من الفئات الوسطى أكبر كتلة ناخبة في الديموقراطيات الحديثة، ما فرض على اليمين، كما اليسار، أن يقتربا من هذه الفئة وحاجياتها وتطلعاتها، وأن يوائما من برامجهما واختياراتهما وتوجهاتهما، مع مزاج ومصالح هذه الفئة التي تجمع بينها ثلاث خصائص مهمة: أولاً، رهانها على التعليم، لتحسين دخلها وارتقائها الاجتماعي. ثانياً، اشتغالها على اقتصاد الإنتاج وليس الريع، وأنها تأكل من عرقها وإبداعها وعملها اليدوي أو الفكري. ثالثاً، تطلعها الكبير إلى المشاركة السياسية، والرقابة على صاحب القرار، لأنها فئة تدفع الضريبة، وتسعى إلى نمط عيشٍ أحسن، وتناضل من أجل تحصين مكتسباتها.
لماذا تخاف الدولة العربية من الطبقة الوسطى واتساعها؟
سؤال حساس وخطير، ويتصل بخصائص هذه الطبقة التي تتعاطى أكثر بالسياسة، وتطمح إلى المشاركة، وتسعى إلى الانفتاح على العصر، وتجتهد لكي تربح أكثر، وتعيش أفضل.  وهذا كله غير ممكن في نظامٍ سلطوي يفتقر إلى الحكمة ومقومات دولة الحق والقانون، ويعتمد التحكم في التطور، والحد من الحريات الفردية والجماعية، ولا يسمح بالمشاركة، ولا بالتناوب على السلطة.
الأغنياء قليلون في كل المجتمعات، ولهذا، تستطيع السلطة العربية أن تتفاهم معهم تحت شعار: "اجمعوا المال واقفلوا أفواهكم". والفئات الفقيرة مشغولة بلقمة العيش، ولا وقت ولا وعي لديها للتفكير في المشاركة السياسية، ولا لتطوير النظامين السياسي والاقتصادي، خصوصاً مع ضعف النقابات، وترهّل أحزاب اليسار. والفئات الوسطى متعِبة للنظام ومكلفة، ولا تقل مطالبها عن مطالب كل الفئات في المجتمعات المتحضّرة.  إذن، الدولة أمام حلين: أن تكيّف بنيتها وطبيعتها مع مطالب هذه الفئة الحرجة في المجتمع، وبالتالي، تصير ديموقراطية، أو أن تضعف هذه الطبقة، وتقضي عليها، لكي لا تفكر في الوقوف في وجهها.
اختارت الدولة العربية الحل الثاني. والفوضى غير الخلاقة الجارية، اليوم، على طول الخريطة العربية هي النتيجة الطبيعية لهذا الاختيار.
 
 
 
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.