لا يسع المتأمِّلَ في تاريخ الترجمة -بصفتها نشاطاً وحصيلة- إلا أن يستغرب من التاريخ الطويل الذي نسجته مع القهر، والتجاربِ المريرة التي عقدتها مع القمع. ولا غرابة في الأمر، فهي سليلة لعنةِ الشتات البابلي الناجم عن العقاب الإلهي، من منظور أسطوري.
ولم يُسْتَثْن رمزُ التراجمة الإلهُ هِرمس بن زيوس من لعنة الترجمة، فقدْ فَقَدَ حرّيته لقبوله بالعبودية في مملكة هاديس؛ حيث عانى أثناء عمله وسيطاً يؤدي مهمته، التي كان يكتفي فيها بنقل الكلمات والرسائل بأمانة بين الآلهة، وحُرِمَ من أنْ يُغيِّر فيها أيّ شيء، بل حتى أنْ يتكلَّمَ تلقاءَ ذاتِه، كما فشل في أن "يُصبح إلهاً بالكامل [...] لقد طمع بحصة الآخر، إلا أن هذا الغرور كان لا بد وأنْ تعاقبه "نميزيس" المنتقمة، ابنةُ الليل".
وليس الحُكم الذي جاء على لسان الجاحظ: "إنّ التَّرجمان لا يؤدّي أبداً ما قال الحكيم"، أو قوله: "ولن تجد البتة مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء"، أو غيرهما سوى تنويعٍ على ما تردّد عند الإيطاليين بعْدَه من أن "الترجمة خيانة"، وتأكيدٍ له، وهو نعْت أخلاقيّ يُجهض جهد المترجم ويحبطه، لأنه في الوقت الذي يُطالَبُ فيه بأنْ يأتيَ بالمعجز، تُلاحِقُه محنةُ الاشتباه، فيُصادَرُ اجتهادُه وإبداعُه، ويُوصَم عمَلُه بالاختلال، مِنْ قِبَل منظّري الترجمة وناقديها وحتى قارئيها.
وتكشف ممارساتٌ عديدة عن التبخيس الذي يلحق الترجمة وصاحبَها؛ فالارتياب فيها يسبقُه في حالات كثيرة إخفاء اسم المترجم، الذي لا يظهر إلا بخط صغير طيَّ صفحة داخلية، وكأنه ليسَ كاتِبَ الكاتب، الذي يُعيد كتابة النص في اللغة المنقول إليها، بكل ما يعني ذلك من إعادة بنائه أو خلقه في لغة مُضيفة.
لكنّ الأدهى هو ردُّ المزايا كلّها إلى المؤلِّف دوماً، في حال نجاح الترجمة في أن تحظى بإقناع قُرائها، فيكون التنويه بقوة خياله وروعة بنائه وسحر أسلوبه، إلخ. ويكون إلحاقُ العيوبِ وكلِّ ارتباك في النص المترجَم بضعف المترجِم نفسِه الذي يُشنَّع به، فكأنه ذلك الشاعر الذي قالَ: "وإذا تكون كريهةٌ أُدْعى لها / وإذا يُحاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ".
وفي أحيان يُتَّخَذ التبخيس شكلاً استئصالياً، فيكون القتل مآلَ المترجِم كحال ابن المقفع والمترجمة الإيرانية مَرجان داوري وغيرهما.
يَستحضر المترجمُ دوماً أن مهمته لا تنحصر في نقل ما يسعى المؤلِّف إلى قوله، وإنما يكون هاجسُه أنْ يُجلّيَ ما تُسكتُه الكلماتُ، وأن يُبرز أنه قارئ مثاليّ متمكّنٌ من أدواته، ومُصيبٌ في تأويلاته. ولعل مأساته الكبرى تكمن في هذا الطموح النبيل الذي يصطدم بوعْيِه التراجيدي بأن عمله مُلاحَق بالنقصان والتجاوز، لأنه يعرفُ أنّ نشاطَه بطبيعته ممارسةٌ تأويلية زمنيةٌ تتهدَّدُها الشيخوخة، كما أنه يَعْلَم أن ترجماتٍ أخرى قادمة ستَحُلّ محلَّ ترجمتِه، لتركُنها في رفوف النسيان.
ولا تقف محنةُ المترجِم عند المؤلِّف والنص والقارئ واستغلال دور النشر، فتاريخ الترجمة يُطْلعُنا على أن محنتها كانت قاسية مع الديكتاتوريات التي استعملتْ جبروتها في مراقبة الكتب الوافدة عليها مُترجَمةً، وفي تتبّع إصداراتِ دورِ النشر.
وتُعزى ملاحقة الاستبداد للترجمة إلى انتباهه إلى الخطر الكامن فيها، على اعتبار أنها سُلطة مضادة وخطابٌ مناهض، يُدخل الجِدَّة إلى مجال سيادته، وأنَّ لها فعالية في تحديث المجتمعات ثقافيًّا، لأنها تعرِّفها على نماذج مختلفة من التفكير وأساليب الحياة الاجتماعية والسياسية، مما قد يؤلِّب عليها شعوبَها فتُفلت من قبضتها.
وتُقدِّم محنة الإسبان مع نظامهم الفرنكوي (1936-1975) مثالاً فريداً لمعاناة الترجمة، ونموذجاً يُحتذى -في التفاف التراجمة والناشرين وغيرهم من المثقفين على الرقابة- بمُناورات ومُبادرات أفلحتْ في تهيئة مجتمعهم للحظة الديموقراطية.