محمود صبح.. لا أحب إسداء النصائح

29 سبتمبر 2015
+ الخط -

وهو يقترب من عامه الثمانين، مفعماً بالبحث والشعر لا يزال، كان لـ"ملحق الثقافة" هذا الحوار الذي تشعّب، فوراء الرجل تجربة زاخرة وما يقرب من ثمانين كتاباً، أغلبها بالإسبانية. ثم هو الشاعر والمترجم الرائد وأستاذ كرسيّ رفيع للدراسات العربية والإسلامية بجامعة مدريد المركزية (كمبولتنسه). لذا ارتأينا أن نقصر الحوار على عمله كمترجم وأكاديمي، ترَك علامة في هذين الحقليْن، ما جعله بحق جسراً بين الثقافتيْن.

* لماذا اخترت الترجمة وأنت الذي يعدّها خيانة؟

نعم، الترجمة خيانة، وحتى هـذه العبارة هي ترجمة عن اللغة الإيطاليّة، وإنّ فيها من الخيانة لَكثيراً، إذ إنّ العبارة في النصّ الأصليّ ذات سجْع، وثمّة جناس بيّنٌ بين كلمة ترجمة وكلمة خيانة. فكيف يتسنّى لي أن أنقل ذلك كلّه من لغة لاتينيّة إلى لغتنا العربيّة من دون أن أخون إحداهما بميلي نحو الأخرى؟

* ألهذا كففت منذ وقت عن ترجمة الإبداع الأدبي؟

لم أكفّ أبداً عن الترجمة الأدبية، إلا أنني زاهد في النشر. لكن صدّقني بأنّي أفضّل ألف مرّة أن أبحث، على سبيل المثال، في الحضارة العربية بالأندلس أو أن أبدع شعراً أو أن أكتب مقالة على أن أترجم من لغة إلى أخرى، بيد أنّه "مكره أخاك، لا بطل"، كما يقول المثل العربيّ. وكذلك "ما العمل؟"، كما يقول لينين في كتابه الشهير بهذا العنوان.

* أي أنك تترجم كثيراً ولا تنشر؟

كما أقول لك. لقد ترجمت الكثير من لغتي الأم إلى اللغة الإسبانيّة ومن اللغة الإسبانيّة المعشوقة إلى لغتي الأمّ. ولا مندوحة لي هنا من البوح، ولا أقول الاعتراف، بأنّي لا أتجرّأ على اللغة الأمّ لأنّها مقدّسة لديّ، ومحرّمٌ عليّ لمسها أو المساس بها، بينما اللغة المعشوقة هي طوع يديّ، أداعبها وتداعبني لأُقلّبها وأقبّلها كيفما شئت، شريطة أن تكون راضية مرتاحة، وليس هذا الشأن مقتصراً على ترجماتي فحسب، بل كذلك على ما كتبته من شعر باللغة الإسبانيّة.

* أنت مَن نحت وصْف "الهسبان"

نعم، كنت أوّل من اقترح استعمال هذه الكلمة بالهاء لا الألف المهموزة، للدلالة على أدباء أميركا اللاتينيّة الذين يكتبون باللغة الإسبانيةّ، من أجل تمييزهم عن الكتّاب الإسبان.

* والإسبان يطلقون عليك لقب "الجسر ـ القنطرة"، لماذا؟

الإسبان يدعونني: القنطرة، ولحسن الحظّ هنا لا أخون، فكلمة القنطرة العربيّة هي نفسها في اللغة الإسبانيّة، لكنّ أصدقاءنا الإسبان يظنّون في معظم الأحيان أنّها إسم عَلَم فيقولون، عادةً: "الجسرـ القنطرة"، ومثله كثير في اللغة الإسبانيّة، مثلاً: "النهرـ الوادي" (من العربيّة)؛ الجبل (من العربيّة) ـ المرتفع؛ الحصن ـ القلعة (من العربيّة)؛ إلخ.
أقول إنّ الإسبان يدعونني: القنطرة، لأنّني جسر بين الثقافة العربيّة والثقافة الإسبانيّة، أترجم منهما وإليهما، أي أنّني مرّةً أخون هـذه ومرّةً أخرى أخون تلك، وثالثة الأثافيّ أنّني في معظم الأحيان أضع النصّ الأصليّ إزاء نصّ ترجمتي، لكي تتبدّى الخيانة وتظهر المفارقة أثناء مقارنة النصّين معاً، حتّى أُدان وأُرجم.

*على ذكر الرجم، كتبتَ مرة عن طالبتك التي وقعت في موقف لغوي طريف

كلا، لم تخطئ هذه الطالبة الإسبانيّة حين سألتها عن مصدر كلمة ترجمة، فقالت مصدرها رَجَمَ. "ومن كان منكم بلا خطيئة ـ أو خطأ ـ فليرجمها بحجر"، كما قال السيّد المسيح ـ عليه السلام ـ وليرجمني بحجر.

* إذاً ما الّذي حضّك وحرّضك على "اقتراف" هذه الخيانة؟

يقول شكسبير في إحدى مسرحيّاته، وأظنّ أنّها مسرحيّة هَمْلِتْ، وهنا أترجم من الذاكرة، فالخيانة مضاعفة: "إنّ من يخوض بحيرة الدم إلى نصفها، يجد المسافة نفسها فيما إذا خاض نصفها الآخر". وكنت قد خضت أكثر من نصف البحيرة (الكلمة العربيّة موجودة في اللغة البَلَنْسيّة، وهذه لغة شقيقة للغة القَشْتاليّة التي تدعى عادة بالإسبانيّة، وكلتاهما مشتقّة من اللغة الأمّ التي هي اللاتينيّة) بجرائمي العديدة السابقة، ولم أقتصر على لغتي المعشوقة: الإسبانيّة، وأتطاول على أدبائها فحسبُ، بل فعلت فِعلتي كذلك مع لغتي الأمّ: العربيّة، وأدبائها بترجمتي منها إلى اللغة الإسبانيّة. فأنّى لي أن أدخل الجنّة!

اقرأ أيضاً: لويس ميغيل كانيادا: للثقافة العربية الكثير لتقوله

* من بين الترجمات الأدبية، يبدو الشعر أصعب، فما هي الصفات المُثلى لمترجم الشعر، في رأيك؟

إنّ ترجمة الشعر لمهمّة شاقّة جدّاً. ولا بدّ أن يكون المترجم شاعراً لكي يلتقط الاستعارات والرموز ويستنبط المعاني ويغوص في أعماق العبارات والمقاصد التي يرمز إليها الشاعر. وعلى مترجم الشعر أن يجد العبارة المعبّرة عن العبارة الأصليّة في اللغة التي يترجم منها، وليست الكلمة نفسها أو الجملة بحدّ ذاتها.
بيد أنّ ثالثة الأثافي هي: كيف نترجم الشعر من وإلى؟ أفنترجمه نثراً أم شعراً؟ وإن كان شعراً، أعلى وزن أم بلا وزن؟ وإمّا صنعناه شعراً موزوناً، أفيكون موزونًا مقفّى، أم غير مقفّى؟
أمّا عن ترجماتي من اللغة الإسبانيّة إلى اللغة العربيّة، فأكتفي بإيراد مثل واحد، هو رثاء خورخه مانريكه ( 1440ـ1479) لوالده، وهي من أوائل القصائد باللغة الإسبانيّة. وقد نلت جائزة مؤسّسة الكتّاب والفنّانين في إسبانيا قبل سنتين عن قصيدة نظمتها باللغة الإسبانيّة عن هذا الشاعر الفذّ.
إلى ذلك ومعه، كان العرب يضعون ثلاثة شروط لا بدّ من أن تتوفّر معاً في كلّ مترجم فذّ، وهي: أن يعرف جيّداً اللغة التي يترجم منها وأن يتقن اللغة التي يترجم إليها، وأن يكون له إلمام بالمادّة التي يترجمها. ثمّ إنّ الجاحظ يقول، وهو يتحدّث عن كتاب الشعر لأرِسْطو، بأنّ الشعر عصيّ على الترجمة. فما العمل؟
إنّ المادّة الوحيدة التي لي بعض الإلمام بها هي الشعر؛ أمّا معرفتي باللغة الإسبانيّة فهي بينَ بينَ، إذ إنّي لم أدرس اللغة اللاتينيّة التي هي أصل اللغة الإسبانيّة؛ وأمّا إتقاني للّغة العربيّة، فإنّي أشكّ في ذلك لاعتقادي أنّها بحر كبير خِضمّ بَلْهَ محيط عميق واسع، ذو أعلام قليلة كالأعلام (الجبال)، سَمتْ في علاه وكالسفن مخرت في خضمّه، منهم الرسول محمّد والجاحظ و"أبو الطيّب المتنبّيّ" و"أبو العلاء المعرّيّ" ولسان الدين ابن الخطيب.

* حصلت على جائزة الملك خوان كارلوس للشعر، وجائزة الدولة الإسبانية للترجمة، وأرفع وسام للفنون والآداب في فلسطين. هل تشعر أنك وُفّيت بعض حقك؟

حين قدمت إلى إسبانيا، بدأت بصيغ أندلسيّة شبيهة بالموشّحات، ومن بعد تجرّأت على نظم القصائد باللغة الإسبانيّة. ولقد ألّفت كثيراً من البحوث حول الأدب العربيّ والأدب الأندلسيّ، ولذلك نلت كرسيّ اللغة العربيّة بامتياز رفيع في جامعة مدريد المركزيّة "كومبلوتنسه". وهو قلّما يمنح إلا لنخبة قليلة من الأساتذة المختصّين. باختصار، أنا راضٍ.

* أنت معروف لدى جيلي بترجمتك الرائدة لسيرة بابلو نيرودا "أشهد أنني قد عشت"، حدّثنا عن ظروف وملابسات هذه الترجمة.

سأتكلّم بشكل عام، لقد برزت ثلاثة كتب ألّفتها بجهد جهيد وهي: "أشهد أنّني قد عشت". والحقيقة أنّني قد بدّلت الكلمة الأولى، وهي: أعترف. لأنّ الكاتب الشيوعيّ لا يستعمل لفظ "أعترف"، إذ هو دلالة على النصرانيّة، وكأنّه يعترف أمام راهب في كنيسة. ولقد أثنى عليّ كثير من الكتّاب على ما قمت به من التغيير والشروح، في هذه الترجمة، وكانت أولى الترجمات قبل الروسيّة. أضف إلى ذلك أنّني قمت بترجمة مختارات من شعره، نُشرت في بغداد قبل مذكّراته التي نشرت في بيروت، ثمّ توالت إعادة الطبعات. والغريب أنّ أحد أعضاء المجمع اللغوي في القاهرة قال لي حين تعرّف عليّ في البيت العربيّ بمدريد، إنّ كثيراً من أعضاء هذا المجمع انتقدوا زميلاً لهم لأنّه سطا على ترجمتي فنشَر في القاهرة ما سلَب ونهَب. أمّا الكتاب الثاني فهو: "مجنون ليلى". وقد كتبت قصائد هذا الديوان باللغة الإسبانية ثمّ ترجمتها إلى لغتنا العربيّة. وقد أدهشني، في ما بعد، أنّ "مجنون ليلى" تُرجم ونشر بعدّة لغات أوروبّية. بيد أنّ ما أثار استغرابي هو أنّ قصيدتي عن طليطلة التي نظمتها باللغة العربيّة ثمّ ترجمتها إلى اللغة الإسبانيّة، قد اختارها مجلس الاتحاد الأوروبّيّ أنموذجاً وحيداً للشعر الإسباني.
أمّا الكتاب الثالث، فحدّث ولا حرج. عنوانه يشير الى أهميّته: "تاريخ الأدب العربيّ الكلاسيكي"، وهو يحتوي على ألف وخمسمائة صفحة. وقد أهديت هـذا الكتاب إلى المغتربين العرب في أميركا اللاتينيّة لكي يفتخر أولادهم وأحفادهم بتراثنا البديع الثري.

* بعد بابلو نيرودا، لم نقرأ لك ترجمات إبداعية منشورة بلغتنا العربية إلا قليلاً، فما السبب؟

إضافة إلى الزهد في النشر، ثمة سأم الحياة. ولا شكّ أنك تعرف الجهد المبذول في دراساتي وأبحاثي الأكاديمية. لقد سرقني الوقت، والحال أنّ الأكاديمية استنفدتني أو كادت. ثم لا أخفيك كذلك أن ترجمة الشعر، لا تحتاج فقط إلى أدوات ناجزة، وإنما مزاج عالٍ أيضاً، وهو ما أفتقده منذ مدّة.

* ما هي عوائق ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإسبانية؟

عديدة، لعلّ أبرزها أن المترجم هنا وضعه المادي صعب، ومضطرّ إلى عمل موازٍ يأكل منه. وكم كنت أتمنى لو يجد دعماً من بلادنا العربية، لكن هذا لم يحصل. مع ذلك ثمة كلّ يوم مترجمون جدد، وعاشقون للثقافة العربية يدخلون على الخطّ، ويبذلون جهدهم ليترجموا.

* كيف تقيّم انفتاح القارئ الإسباني على مترجَماتنا؟

لا يزال اهتمام القارئ العام ضعيفاً. صحيح أن المترجَم يجد الاهتمام بين شرائح معينة، كدارسي لغتنا وآدابها، وبعض المهتمين بأحوال منطقتنا، أو الناوين السفر إليها لعمل ما أو منحة، إلا أن الاستقبال العام ليس كما نأمل، مع أنه زاد ولا شكّ في السنوات الأخيرة، وهذا شيء، بالرغم من كل العوائق، باعثٌ على الأمل.

* أمضيت عمرك في تدريس الطلبة الإسبان لغتنا العربية وآدابها. كيف تنظر إلى هذه التجربة الآن؟

لقد قمت خلال سنين طويلة بتدريس لغتنا العربيّة وآدابها في هذه الجامعة التي هي أقدم جامعة في إسبانيا، وما زلت أتردّد عليها لكي أشرف على كثير من البحوث والدراسات. ولا غرو أنها تجربة ثرية، حين أنظر إليها الآن، بكل مباهجها ومشقاتها، أشعر براحة وبأنّ هذا العمر لم يمضِ هباءً. لقد منحتني صداقات ثمينة جداً مع أعلام كبار في إسبانيا وأميركا اللاتينية، منهم سياسيون وأدباء ومفكّرون، تركوا بصماتهم على عالمنا المعاصر.

* ترى كيف أثّر عليك هذا الترحّل الدائم بين الثقافتيْن، وأيّ منهما صارت الأقوى تأثيراً عليك؟

أنا معلّق، كما قلت، ما بين عشق الأم والشغف بالمعشوقة. أحياناً، خصوصاً في الماضي، كانتا تتوازيان. أما الآن فكما يمكن أن تقول: هي مرحلة العودة إلى الرحم.

* أجيال من الطلبة الإسبان تتلمذوا على يديك. هل من خبرة تنقلها إلى المترجمين الجدد وهم يشقّون أولى خطواتهم في الدرب العسير؟

لا أحب إسداء النصائح، ولكن في جميع الأحوال على المترجم ألّا يكفّ عن التعلّم. الدراسة تجهّز البنية التحتية، إلا أن الدأب والمراس هما من يُعليان البنيان.

* بحكم معايشتك للطلبة، أترى في الأجيال الجديدة ما يطمئننا على مستقبل ترجمة أدبنا على أيديهم؟

من دون الخوض في التفاصيل، أقول: نعم. وأُضيف: أنا متفائل.

* أيّ الكتب التي ألّفتها بالإسبانية أقرب إليك؟

كتابي عن أبي الطيّب المتنبي. وأبو الطيّب هو لقبي العربي أيضاً.

* ماذا عن جديدك للقارئ العربي والقارئ الإسباني؟‏

من غرائب المصادفات أنّ أولى ترجماتي من الإسبانيّة إلى العربيّة كانت مجموعة دراسات ومقالات حول "دون كيخوته" لميغيل دي ثيربانتس الشهير، كان قد كتبها أربعة من رجال الفكر والأدب في إسبانيا. وأنّ آخر مؤلّفاتي هو دراسة مفصّلة للمواضيع والألفاظ العربيّة في "دون كيخوته"، وقد استغرق مني هذا الكتاب خمس سنوات كاملة. ولكنّني أعترف أنّ ترجمة الشعر من وإلى اللغتين العربية والإسبانية، هي التي كانت شاغلي الأكبر وديدني المستمرّ منذ أن وطأت أقدامي أرض إسبانيا قادماً من مدينة حمص في سوريّة حيث كنت مديراً لمدرسة تابعة لوكالة الغوث (الأونروا)، وذلك في السادس عشر من شهر مارس/ آذار عام 1965.

* وبماذا تودّ أن تختم هذا الحديث؟

بالإشارة إلى الحديث النبوي الذي حفظته وأنا طفلٌ صغير في بلدتي صفد بفلسطين، وطبّقته على كلّ ما قمت به من تدريس وترجمة وإبداع شعريّ: "إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
المساهمون