محمد محجوب.. استعارة هايدغر

03 ابريل 2015
محمد محجوب (العربي الجديد)
+ الخط -

تبدأ رحلة محمد محجوب (1953)، في اتجاه هايدغر، من "ميل شعري" في شبابه قاده إلى "نداء الوجود"، ذلك المفهوم الهايدغري الذي غزا عوالم الأدب والفكر والفنون؛ بما هو استماع إلى معرفة مبهمة داخلنا تخصّ حقيقتنا في الكون.

يقول: "لم أكن واعياً أو مخطّطاً لمساري. لكنني أعتقد أن كل واحد فينا ينخرط في إطار فكرة تتكلم فيه، إلى أن يصبح واعياً بها". وبخصوص التقائه بهايدغر، يقول: "ما دفعني نحوه هو ميل شعري أصلي، ثم حرص على تفسير الأمور بالسياق. وقد وجدت هذه الرؤية في الفينومينولوجيا، زمن دراساتي الجامعية".

صادف أن تعلّم محجوب اللغة اليونانية القديمة (1974)، في إطار طموح بأن يترجم "منظومة بارمنيدس"، حيث تعرّض لإشكالية الحقيقة والظن، فوجد أمامه هايدغر وتفكيره في "معضلة الحقيقة" كي يطوّر تناوله للإشكالية التي يشتغل عليها. بعد ذلك، أنجز بحثاً بعنوان "الأساس الأنطولوجي لهايدغر"، درس فيه علاقة الألماني مع الإغريق، والتقط فكرة أساسية منه وظل يشتغل عليها في سياقات عربية معاصرة.

استفاد محجوب من تفكيك هايدغر لتكوّن الحداثة وبيانه لسبل تجاوزها في الغرب؛ لكي يفكّر "كيف يمكن تأسيس حداثة في بلادنا؟". يقول: "يقدّم هايدغر مخطّطاً يتمثل في أن نستعيد الأصول بنحو يحرّر هذه الأصول من الإفضاء لما أدّت إليه". ويضيف: "كل أصل هو خزّان من الإمكانيات. نحن فرع من هذا الأصل. الفكرة الهايدغرية هي أنه يجب أن ننظر إلى أنفسنا كفرع ممكن وليس كفرع ضروري من هذا الأصل".

حسب رأي المفكر التونسي "لدينا أصلان ممكنان: الأصل الأثيني والأصل المكّي، وأعتقد أن جوهر الحضارة الإسلامية هو هذه المراوحة بين الأصلين، فلا خيار لنا إلا بالنظر إلى كليهما، وها أنّ الغرب قد أخذ بالرافد الأثيني وحده، فوصل إلى مضيقاته المعروفة".

لكن محجوب يشير إلى أننا "لا يمكن أن ننظر إلى هايدغر تماماً كما ينظر الغربيون إلى فكره". يستند إلى إشارة تاريخية بانخراط هايدغر في النازية، ويقول: "ظل الغرب يعاقبه على ذلك ويؤاخذه، خصوصاً على سكوته عن "المجازر ضدّ اليهود". إذا سلّمنا، نحن كعرب، بهذه النظرة، فإننا نسلّم بعد ذلك بمصير فلسطين، ومن هنا كان لا بدّ من رفض رؤية الغرب لهايدغر".

إلا أنه، من جهة أخرى، يشير إلى فصل الغرب بين الفيلسوف وسيرته السياسية: "سرعان ما فهم المفكرون بأنه لا يجب أن نتصوّر الفلاسفة ككائنات لا تخطئ، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بشأن غير فلسفي، مثل الحياة السياسية". فرغم الإقصاء السياسي لفكره، "يسود هايدغر العالم فلسفياً إلى اليوم، بمعنى أنه لا يوجد فكر في الوقت الحاضر ليس فيه جدل بشكل أو بآخر معه".

حتى من المنظور الفلسفي، يرى محجوب أنه "لا يمكن للعرب أن ينظروا إلى هايدغر مثل الغرب، فجدلنا معه مختلف بالضرورة. الغرب عاش كامل تجربة الحداثة ووصلت به إلى ارتطامات يسمّونها ما بعد الحداثة، وهي في الحقيقة مضيقات الحداثة. أما المفكر العربي فهو مجبر على أن ينظر إلى فكره من زاوية ما قبل الحداثة".

في كتابه "هايدغر ومشكلة الميتافيزيقا" (1995)، اتخذ محجوب موقفاً نقدياً من هايدغر، فهذا الأخير "رغم محاولته العملاقة للخروج من الميتافيزيقا ونقدها، لم يستطع أن يتخلّص من بقايا وترسّبات ميتافيزيقية ظلت عالقة بذهنه".

ما وراء هذه القراءة النقدية، هو أن محجوب أراد أن يبيّن بأن الغرب لا يمكنه أن يتخلّص نهائياً من الميتافيزيقا. صحيح أن اندفاعه من أجل تجاوزها أدى إلى نجاحه بالسيطرة على الكوكب، ولكنه يوشك على تحطيمه. من هنا، دعا في كتابه "إلى تلاقٍ بين الشرق والغرب، لا مجرّد حوار بينهما. لا بدّ من استعادة تجربة الآخر وإعادة صياغة النفس".

إلى جانب اهتمامه بهايدغر، اشتغل محجوب على الفارابي، وهو انتقال فكري تراكمي فرضته مقتضيات مهنة التدريس التي ما زال يمارسها حتى اليوم. يفسّر ذلك قائلاً: "وَضَع التدريس في طريقي الفلسفة الإسلامية، فاشتغلت عليها بمثابرة لكي أملأ فراغات في اطّلاعي الأكاديمي. ما دفعني إلى هذا الجهد، هو أنني، مثل عدد من أبناء جيلي، وجدت الفلسفة الإسلامية تدرّس في الجامعة التونسية بمنهج سرد الآراء، فكانت مثل قطعة متحفية".

كان هدف محجوب من الاشتغال على الفارابي، في بداية الثمانينيات، هو أن يجعل منه معاصراً، كما يظهر ذلك في كتابه "المدينة والخيال: دراسات فارابية". ويقول: "وجدت في الفارابي ابتداءً ثانياً، وما نحتاجه اليوم هو استعادة هذا الابتداء الثاني. أن نسترجع الأصل من دون أن يصل بنا إلى مضيقات الفلسفة الغربية. وهنا علينا أن نستفيد من كوننا نرى هذه المضيقات داخل الفكر الغربي".

تعدّ الترجمة فضاءً موازياً للإصدارات الفكرية لمحمد محجوب، ولعلّ من المفارقات البارزة أنه قد ترجم لروسو وميرلوبونتي وهيوم وريكور من دون أن يترجم لهايدغر. هذه الملاحظة التي ذكرناها أمامه دفعته إلى أن يحدثنا عن عالمه الصغير، وخصوصاً مكتبه المليء بمشاريع المؤلفات التي لم تخرج للضوء.

يذكر لنا محجوب أنه ترجم أعمالاً لهايدغر، مثل "هرمنيوطيقا التأويلية"، الذي يعتبره المَخبر الذي اكتملت فيه فكرة كتابه الرئيس "الكينونة والزمان"، كما أن لديه مشروع ترجمة جديدة لهذا العمل الضخم بعد أن عرّبه مواطنه فتحي المسكيني. إلى جانب ذلك، يحدثنا محجوب عمّا يقارب العشرين مؤلفاً لم ينشرها، وهي أعمال لا تنتظر إلا لمسة الإعداد الأخير.

يقول كثيراً ما أسأل "لماذا لا تكتب بكثرة؟ فأجيب بل أنا لا أنشر بكثرة". ومن بين ما يحجم عن نشره أشعاره التي يجد، بسبب تراكمها، صعوبة في جمعها ومراجعتها. ويوضح "هو ليس قراراً فكرياً ضدّ الشعر، ولكنه قرار يتعلق باستراتيجية التواصل. أنا أفضّل أن أتواصل عبر الفلسفة".

إنها لمصادفة أن يتشابه محجوب في هذه النقطة مع هايدغر، الذي لم ينشر في حياته سوى مؤلفات معدودة. وبعد رحيله سنة 1976، ظهرت أعمال جاهزة للنشر، يتم إصدارها بشكل دوري، وقد وصل مشروع نشر أعماله اليوم إلى 90 مجلداً، ومن المبرمج أن تنتهي عملية النشر هذه سنة 2023. هكذا نرى أن منجز هايدغر لا زال بصدد التكوّن حتى بعد وفاته.

بالعودة إلى خيار الترجمة في تجربته، يكشف لنا بأن "الترجمة هي الإمكانية الأساسية اليوم لكي نتفلسف. نحن مضطرّون لأن نستضيف من يمكن أن نتفلسف معهم". سألناه عمّا إذ كان انشغال المفكر العربي بالترجمة على حساب إنتاجه الخاص إعاقةً. يقرّ بذلك، لكنه يحذّر من "الاقتصار على الكتابة أو الترجمة".

هذا الوضع يسميه بـ"الحَوَل الأنطولوجي"؛ أي ضرورة النظر في اتجاهين مختلفين، ويتمنّى لو وُجد مترجمون للفكر كي يتفرغ المفكرون للتفكير. كما يرى أن "حركة النشر في العالم العربي هزيلة بحيث تعيق بدورها الحياة الفكرية". ولعل مسؤوليته اليوم كمدير لـ"معرض تونس الدولي للكتاب"، المستمر حتى 5 إبريل/ نيسان، تضع تجربته في خدمة تطوير واقع الكتاب.

غير أن أسباب ركود الحياة الفكرية في العالم العربي لها جذور في شريحة المفكرين أنفسهم، إذ يرى أن "العلاقات الشخصية بين المفكرين العرب ليست على ما يرام". ويفسّر ذلك بـ"عدم اعتراف متبادل بين المفكرين بسبب اقتناع نرجسي بالمنجز الخاص لكل واحد منهم". ما يحدث في العالم العربي هو أن "كل مفكر يتّصل بالضفة الشمالية من دون أن يحاور شركاءه في اللغة؛ أي أننا نتحاور بالمرور من الآخر، وإذا لم نتجاوز ذلك، فلا سبيل للدخول في الدورة الفلسفية العالمية".

يفخر محمد محجوب بأنه منتوج معرفي "صُنع في تونس" بما أنه قد حصّل كل درجاته العلمية من الجامعة التونسية، ومن مخاضها في السبعينيات. يتذكر بأنها كانت "مسودة بنقاش سياسي وخاصة "كيف نفكر ماركسيا في واقعنا العربي؟" أي كيف نطبّق عليه المادية الجدلية. يقول "لم أشعر بالاطمئنان إزاء هذا النوع من التفكير الذي يتلخص في أخذ منهج وتطبيقه، دون التفكير في المنهج ذاته وافتراضاته، ولذلك انقطعت مبكراً عن السياسة".

المساهمون