فلاح بسيط ولد في كفر الشيخ، وعاش في المحلة الكبرى، وعمل ناظرًا للزراعة. يهوى الموسيقى وغناء الموشحات الدينية، ويغني وسط الأصدقاء في جلسات السمر ليلاً. يأتي إلى القاهرة في أوقات متفرقة بحثاً عن فرصة، ولو صغيرة، كي يترك الزراعة، ويهرول إلى حلمه وشغفه بالموسيقى.هذه هي السيرة الأولية السريعة لبدايات شاب يدعى محمد الموجي، الذي تحوّل لاحقاً إلى واحد من أهم الملحنين المصريين، وقد مرّت قبل أيام ذكرى ميلاده الـ95.
محمد الموجي، أحد أبناء ثورة 52، جاء مع نهاية الأربعينيات إلى القاهرة، وبدأ مع رفيق دربه عبد الحليم حافظ مشوار النجومية وقت انطلاقة ثورة الضباط الأحرار. فكانت مسيرة الموجي منذ بداية الخمسينيات، وحتى أعوام قليلة قبل رحيله عام 1995. لكن تمتد المرحلة الفنية للموجي، والتي تعبر عنه وعن مدرسته الموسيقية، من نهاية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات.
20 عاماً، تعتبر الأهم في صناعة الموسيقى والسينما في مصر، لأنها كانت صناعة موجهة من الدولة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فكان كل أبناء هذه الفترة يتحركون تحت ظلال الدولة ومساراتها. طوال هذه السنوات، كانت نجومية الموجي تكبر لكنه بقي غير راض عن مكانته وسط الساحة الفنية، يبحث عن مكان آخر، أكبر، وعن دور أكبر للملحّن.
خرجت أم كلثوم من محاولات القصبجي لامتلاك صوتها، وصنع عبد الوهاب أسطورته الشخصية، وتعلم حليم منهما. ولم يحصر نفسه في ظل ملحّن واحد أو كاتب محدد، فخرج حليم من سيطرة الجميع، إلا ما يمليه عليه عقله. وفقد الموجي حلم السيطرة على حنجرة "العندليب الأسمر" وتحويله إلى مشروعه الخاص، خصوصاً أنه بقي مقتنعاً أنّ ألحانه هي السبب الأهم في نجاح العندليب الأسمر.
لم يقدم الموجي نفسه بأنه مُجدّد أو خليفة أحد. كان واثقاً بما يقدمه، واثقاً من مشاعره في التعبير عن الكلام. استطاع أن يجذب الأنوار إليه. فالتنوع الذي قدمه جعله يقف في مكان وحده، خاصة مع ظهور أصوات جديدة على الساحة الفنية، من صباح وشادية وفايزة أحمد. لكن سرعان ما اصطدم الموجي بالواقع إذ رغم نجاحاته أصابته الخيبة بعدما تأكد أن الملحن هو الشخص الثاني في الأغنية بعد المطرب.
وجد الموجي نفسه رغم نجاح ألحانه في مكانة ثانوية، إذ خرج حليم لعالم أكبر، وأصبح هو المطرب الأول، ولا يقف أحد بجانبه، وتزوجت فايزة أحمد من الملحن محمد سلطان. في تلك اللحظات، شعر الموجي بأنه خسر كل شيء، وكأنّ شيئا لم يكن. ورغم تلحينه لأم كلثوم، إلا أنَّه كان يعلم بأن مكانه ليس هنا. فاسمه لن يُكتَب في تاريخ الست. حتى أنَّ الموجي حكى عن أول ألحانه لأم كلثوم في أغنية "للصبر الحدود"، بأنه حاول بقدر الإمكان أن يمشي وراء ملحنيها السابقين، كي يعجبها اللحن. إذاً لم يغامر بشكل كبير، وعرف أين يقف وأين سيكون.
في زحمة الخيبات هذه، رفض عبد الحليم حافظ زيادة أجر الموجي، فحدثت قطيعة لمدة ثلاث سنوات، تحرك فيها كل منهما على حدة، فكانت فترة بليغ حمدي مع حليم، وفترة الموجي خارج حنجرة حليم، فعمل مع فايزة أحمد وصباح ومحرم فؤاد.
اقــرأ أيضاً
بدت تلك الحقبة، بمثابة تحدّ جديد أمام الموجي: ماذا سيفعل بعيداً عن صوت حليم؟ عكس كل التوقعات نجح الموسيقي المصري في التحدي وإثبات مدرسته الخاصة، وتقديم الألحان بنكهة ريفية مميزة، فتحرر لفترة من ثقل النجومية في مشوار حليم. ولم يقف الموجي عند تقديم ألحان مع آخرين، ولكن بدأ في البحث عن نجوم جدد كي يقدمهم للساحة الفنية. لكنها كانت تجربة فاشلة أنهكت الموجي موسيقياً، رغم تقديمه عدة ألحان جيدة خاصة في الأعمال الأولى للمطربين الجدد.
وفي خضمّ بحثه عن موهبة جديدة تعوّضه خلافه مع حليم، لكنْ بعد فترة أدرك الإثنان أهمية عملهما معاً، لذلك نرى أن حليم افتتح مسيرته مع الموجي، وختمها معه أيضاً. ويمكننا، من قراءة اللحن الأول "صافيني مرة"، واللحن الأخير "قارئة الفنجان"، رؤية مدى تطور الموجي، ومدى إتقانه التعبير عن حالة الكلام. ومع هذا التطور، ظل الموجي وفياً للجمل الريفية البسيطة، والتي كان يميل فيها لاستخدام الناي، والرقة في التعبير عنها، وتقديره لفكرة الموال المرتجل في ظاهره، والملحن في باطنه، وسط الأغنية.
الموجي المطرب
بين كل فترة وأخرى كان يحاول الموجي أن يخرج عن مكانته كملحّن، كإعلانه رفض حصر دوره في الرجل الثاني وراء المطرب، فحاول شق طريق مواز لطريقه كملحّن: فتارة يدخل عالم التمثيل لكنه يفشل فيه، ثمّ يقرر الابتعاد عن التمثيل مباشرة والاكتفاء بالتلحين. كما أنه حاول في بداية طريقه أن يغني، لكنه أدرك سريعًا بأنه غير قادر على الغناء والالتزام بمواعيد نوم محددة، والاهتمام بالصحة والحنجرة. وفي كل مرة حاول فيها الخروج عن مسار الملحن، كان يفشل ويقتنع بقيمته كملحن، ليعود ويقدم ألحانا خالدة ومليئة بالمشاعر.
لم يقف الموجي عند ذلك، لكن مع نهاية الستينيات، عاد للغناء، وبدأ يغنّي ألحانه في كل البرامج. حتى إنه كان يغني ألحاناً لم تنشر، مثلما فعل مع حليم في أغنية "أحضان الحبايب". وتحدث الموجي في هذه الفترة عن دور المطرب في الأغنية، ليعود دائماً لنفس النقطة، من هو الرجل الأول في الأغنية. يرى الموجي أن الأغنية ملك الملحن، لأنها جزء منه، ومن إبداعه الفني والشخصي، وبأنّ المطرب ما هو إلا آلة من ضمن الآلات الموسيقية.
محمد الموجي، أحد أبناء ثورة 52، جاء مع نهاية الأربعينيات إلى القاهرة، وبدأ مع رفيق دربه عبد الحليم حافظ مشوار النجومية وقت انطلاقة ثورة الضباط الأحرار. فكانت مسيرة الموجي منذ بداية الخمسينيات، وحتى أعوام قليلة قبل رحيله عام 1995. لكن تمتد المرحلة الفنية للموجي، والتي تعبر عنه وعن مدرسته الموسيقية، من نهاية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات.
20 عاماً، تعتبر الأهم في صناعة الموسيقى والسينما في مصر، لأنها كانت صناعة موجهة من الدولة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فكان كل أبناء هذه الفترة يتحركون تحت ظلال الدولة ومساراتها. طوال هذه السنوات، كانت نجومية الموجي تكبر لكنه بقي غير راض عن مكانته وسط الساحة الفنية، يبحث عن مكان آخر، أكبر، وعن دور أكبر للملحّن.
خرجت أم كلثوم من محاولات القصبجي لامتلاك صوتها، وصنع عبد الوهاب أسطورته الشخصية، وتعلم حليم منهما. ولم يحصر نفسه في ظل ملحّن واحد أو كاتب محدد، فخرج حليم من سيطرة الجميع، إلا ما يمليه عليه عقله. وفقد الموجي حلم السيطرة على حنجرة "العندليب الأسمر" وتحويله إلى مشروعه الخاص، خصوصاً أنه بقي مقتنعاً أنّ ألحانه هي السبب الأهم في نجاح العندليب الأسمر.
لم يقدم الموجي نفسه بأنه مُجدّد أو خليفة أحد. كان واثقاً بما يقدمه، واثقاً من مشاعره في التعبير عن الكلام. استطاع أن يجذب الأنوار إليه. فالتنوع الذي قدمه جعله يقف في مكان وحده، خاصة مع ظهور أصوات جديدة على الساحة الفنية، من صباح وشادية وفايزة أحمد. لكن سرعان ما اصطدم الموجي بالواقع إذ رغم نجاحاته أصابته الخيبة بعدما تأكد أن الملحن هو الشخص الثاني في الأغنية بعد المطرب.
وجد الموجي نفسه رغم نجاح ألحانه في مكانة ثانوية، إذ خرج حليم لعالم أكبر، وأصبح هو المطرب الأول، ولا يقف أحد بجانبه، وتزوجت فايزة أحمد من الملحن محمد سلطان. في تلك اللحظات، شعر الموجي بأنه خسر كل شيء، وكأنّ شيئا لم يكن. ورغم تلحينه لأم كلثوم، إلا أنَّه كان يعلم بأن مكانه ليس هنا. فاسمه لن يُكتَب في تاريخ الست. حتى أنَّ الموجي حكى عن أول ألحانه لأم كلثوم في أغنية "للصبر الحدود"، بأنه حاول بقدر الإمكان أن يمشي وراء ملحنيها السابقين، كي يعجبها اللحن. إذاً لم يغامر بشكل كبير، وعرف أين يقف وأين سيكون.
في زحمة الخيبات هذه، رفض عبد الحليم حافظ زيادة أجر الموجي، فحدثت قطيعة لمدة ثلاث سنوات، تحرك فيها كل منهما على حدة، فكانت فترة بليغ حمدي مع حليم، وفترة الموجي خارج حنجرة حليم، فعمل مع فايزة أحمد وصباح ومحرم فؤاد.
بدت تلك الحقبة، بمثابة تحدّ جديد أمام الموجي: ماذا سيفعل بعيداً عن صوت حليم؟ عكس كل التوقعات نجح الموسيقي المصري في التحدي وإثبات مدرسته الخاصة، وتقديم الألحان بنكهة ريفية مميزة، فتحرر لفترة من ثقل النجومية في مشوار حليم. ولم يقف الموجي عند تقديم ألحان مع آخرين، ولكن بدأ في البحث عن نجوم جدد كي يقدمهم للساحة الفنية. لكنها كانت تجربة فاشلة أنهكت الموجي موسيقياً، رغم تقديمه عدة ألحان جيدة خاصة في الأعمال الأولى للمطربين الجدد.
وفي خضمّ بحثه عن موهبة جديدة تعوّضه خلافه مع حليم، لكنْ بعد فترة أدرك الإثنان أهمية عملهما معاً، لذلك نرى أن حليم افتتح مسيرته مع الموجي، وختمها معه أيضاً. ويمكننا، من قراءة اللحن الأول "صافيني مرة"، واللحن الأخير "قارئة الفنجان"، رؤية مدى تطور الموجي، ومدى إتقانه التعبير عن حالة الكلام. ومع هذا التطور، ظل الموجي وفياً للجمل الريفية البسيطة، والتي كان يميل فيها لاستخدام الناي، والرقة في التعبير عنها، وتقديره لفكرة الموال المرتجل في ظاهره، والملحن في باطنه، وسط الأغنية.
الموجي المطرب
بين كل فترة وأخرى كان يحاول الموجي أن يخرج عن مكانته كملحّن، كإعلانه رفض حصر دوره في الرجل الثاني وراء المطرب، فحاول شق طريق مواز لطريقه كملحّن: فتارة يدخل عالم التمثيل لكنه يفشل فيه، ثمّ يقرر الابتعاد عن التمثيل مباشرة والاكتفاء بالتلحين. كما أنه حاول في بداية طريقه أن يغني، لكنه أدرك سريعًا بأنه غير قادر على الغناء والالتزام بمواعيد نوم محددة، والاهتمام بالصحة والحنجرة. وفي كل مرة حاول فيها الخروج عن مسار الملحن، كان يفشل ويقتنع بقيمته كملحن، ليعود ويقدم ألحانا خالدة ومليئة بالمشاعر.
لم يقف الموجي عند ذلك، لكن مع نهاية الستينيات، عاد للغناء، وبدأ يغنّي ألحانه في كل البرامج. حتى إنه كان يغني ألحاناً لم تنشر، مثلما فعل مع حليم في أغنية "أحضان الحبايب". وتحدث الموجي في هذه الفترة عن دور المطرب في الأغنية، ليعود دائماً لنفس النقطة، من هو الرجل الأول في الأغنية. يرى الموجي أن الأغنية ملك الملحن، لأنها جزء منه، ومن إبداعه الفني والشخصي، وبأنّ المطرب ما هو إلا آلة من ضمن الآلات الموسيقية.