بعد سبعة مؤلفات تزاوج بين الفلسفي والجماليات، صدر للباحث المغربي محمد الشيكر، ضمن منشورات "جمعية الفكر التشكيلي"، كتاب بعنوان "الفن في أفق ما بعد الحداثة: التشكيل المغربي نموذجاً". الكتاب الذي يقرأ ويجادل في تاريخ الفن المغربي الحديث على ضوء مفاهيم الحداثة الفكرية وعلاقتها بها، يتوزع، إضافة إلى المقدمة وملزمة الصور التوضيحية، على ثلاثة أقسام كبرى هي "الحداثة الاستتيقية: الإرهاصات الجنينية"، و"التجربة التشكيلية المغربية ومشروع الحداثة"، و"التشكيل المغربي وما بعد الحداثة".
في مقدمة الكتاب، يحفر الباحث في مفهوم ما بعد الحداثة؛ إحدى الإشكالات التي ما تزال تثير نقاشاً وجدالاً بين عدد من المفكرين والباحثين المختصين، في المغرب والعالم العربي، ساعياً إلى مراجعة والبحث في مدى صحة التسليم بتحقق شروط ما بعد الحداثة وإوالياتها داخل بيئة عربية ما تزال تحفل بعدد من الممارسات والقناعات التي تحسب على "ما قبل الحداثة".
يتكئ الشيكر، في مناقشته هذه الإشكالية ومحاولته الإجابة على أسئلتها، على تصوّر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حول الحداثة التي يرى فيها "مشروعاً لا ينتهي"، فيبادر في مقدمة كتابه إلى توضيح هذا الأمر، ثم يسعى إلى الإضاءة على مناطق سوء الفهم في تمثّل هذا المفهوم عربياً، لا سيما في سياقه التشكيلي.
وفي هذا الصدد، يشير إلى أن مفهوم ما بعد الحداثة لا يشي بالقطيعة المبرمة مع الحداثة، ولا ينطوي على أي ادعاء لتجاوز أفق الحداثة، وإنما هو منعطف جذري من منعطفات الحداثة أو من مساقاتها التاريخية. ويضيف أن ما بعد الحداثة هي حداثة الحداثة، أو هي الحداثة وقد تخلصت من رؤيتها الطوباوية ومنزعها البروميتيوسي البطولي ومحكياتها الكبرى. ويستحضر، في هذا السياق، رأي الباحث الفرنسي فانسُن ديكومب، الذي يرى أن ما بعد الحداثة هي لحظة يقوم فيها الحس النقدي بالتغلب على آخر ما تبقى من سذاجته.
في القسم الأول من الكتاب، يقارب الشيكر الإرهاصات الأولى للحداثة التشكيلية في المغرب، أو ما يسميه بـ"لغة التجريد وعتبات الحداثة"، مستحضراً تجربتَيْ الفنانين الراحلين الجيلالي الغرباوي (1930 ـ 1971) وأحمد الشرقاوي (1934 ـ 1967)، بوصفهما قامتين فنيتين اعتبرتا علامتين فارقتين في التشكيل المغربي خلال القرن العشرين، ومفصلاً في تحوله إلى الحداثة.
ويرى الباحث أن الغرباوي ضخّ أنفاساً جديدة في التشكيل المغربي، عبر معانقته للمشروع الحداثي بحماسة منقطعة النظير، بعدما تشبّع بالقيم الجمالية الحديثة أثناء إقامته في باريس بين عامي 1952 و1956، حين كان منتسباً إلى حلقة الفن غير التصويري مع بعض الفنانين العرب الطليعيين، مثل اللبناني شفيق عبود والجزائري أحم بناتور. من هنا جاءت لمسته الفنية التجريدية الخالصة كبديل عن هيمنة الاتجاه الأكاديمي والاتجاهات الإثنية والغرائبية والاستشراقية التي كانت سائدة آنذاك، ما جعله يعيش نوعاً من المنفى داخل وطنه.
"أزرق الملائكة" لـ أحمد الشرقاوي (1965) |
أما الفنان أحمد الشرقاوي، فقد عاش هو الآخر المغامرة التجريدية المجددة التي لم تنفصل، على عكس سابقه، عن جذورها في تربة الموروث الثقافي والشعبي المغربي، في شقه القروي المرتبط بموتيفات الوشم ورسمات التطريز والنسج وما إلى ذلك من الأشكال التي كانت تعتبر تعبيرات إبداعية مغربية خالصة.
استحضاراً لكل ذلك، يرى الباحث أن الشرقاوي وجد في كل من بول كلي وروجي بيسيير الطريق لعقد مصالحة خلّاقة وإيجابية بين التراث والحداثة، ناجحاً في تبييء الحداثة واستنباتها في أرض محلية قريبة من عين المتلقي البسيط ومن وجدانه الجمعي. وعلى هذا الأساس، كانت أعماله تمثل لحظة وعي حداثي مركّب، وليست محض انكفاء على الذات أو ارتداد إلى الماضي البسيط، كما يصفها الباحث. إنها عودة حداثية واعية بحدودها ومآلاتها، وهي بذلك تتموضع في سياق التحرّر من فخاخ الرؤية الاستشراقية والكولونيالية التي تختزل الذات في منظور فولكلوري زائف وفجّ.
وتحت عنوان "الفطري والإثنوغرافي في التشكيل المغربي"، ينتقل الباحث لإلقاء ضوء على ما عرف في مدونة التشكيل المغربي بـ" الفن الفطري" أو "الساذج"، في توصيف لا يخلو من عتب وإنقاص من تلك الموجة الفنية التي جاء أصحابها إلى الفن التشكيلي بمحض المصادفة، والذين لاقوا ترحيباً كبيراً ودعماً تسويقياً من بعض النقاد الأجانب. وكان بعضٌ من تشكيليي الفوج الأول المغربي من خريجي المدارس الفنية الأكاديمية، رأى في تلك الموجة وما نالته من سمعة إمعاناً في تهميشهم وإقصاء لمقترحاتهم الجمالية الحداثية من العرض والتداول والحضور.
وفي هذا السياق، يتوقف الباحث عند "مجموعة 65"، رابطاً مشروعها بـ"الحداثة الجمالية"، إذ راهن أصحابها على ربط الممارسة الفنية بالخطاب النقدي النظري، كرد فعل ليس فقط على "محاباة" الأجانب للفن الفطري، وإنما أيضاً على تلك المناهج والبرامج التعليمية التي كرّستها المؤسسة الاستعمارية داخل الحقل الفني بالمغرب. من هنا كانت دعوة أفراد هذه المجموعة إلى مساءلة التراث الكولونيالي، عبر إنجاز بحوث حول الفنون التقليدية المغربية، بما يؤسس لتلك العلاقة المغيّبة التي تصل علامات الماضي برموز الحاضر من أجل بلوغ عتبة الأصالة.
وتحت عنوان "التشكيل المغربي وأفق ما بعد الحداثة"، ينتهي الباحث إلى ما يعتبره خلاصة عامة تعيد ترتيب اقتراحات كل الاتجاهات والحساسيات الفنية السابقة، بما يصب في إطار القراءة المتسائلة والمفتوحة على احتمالات التأويل وإعادة القراءة، وبما يجعل من هذا الكتاب مقترحاً قِرائياً وتوثيقياً يستحق التنويه.