محمد الأشعري؛ النبرة المغربيّة

12 مايو 2015
+ الخط -
يكتفي الدارسون للشعر المغربي الحديث، عادة، بإدراج محمّد الأشعري ضمن جيل السبعينات، وهو الجيل الذي جاء بعد جيل الروّاد المؤسّسين من أمثال أحمد المجاطي ومحمّد السرغيني وعبد الكريم الطبال ومحمّد الميموني. لكنّ الشعراء المغاربة ما فتئوا يستدركون على هذا التصنيف قائلين: "إنّ تقسيم الشعراء إلى أجيال ـ كما درج عليه النقّاد في المشرق والمغرب على السواء ـ هو بمثابة تحقيبٍ عِقْديٍّ تسهيلاً للتصنيف، لكنّه يبقى غير سليم وناجع، لأنّ الشعر لا يُقاس بمثل هذا الزمن، إذ يمكن للجيل أن يستغرق وَقْتاً أطول أو أقصر. هناك مجموعةٌ من الشعراء في تراثنا الشعري العربي حداثيُّون ومتقدّمون في رؤيتهم الشعرية، مع أنّهم موغلون في القدم".
هذا الاستدراك تؤكده مدوّنة الأشعري الشعرية، من حيث تكشف عن قصيدة حداثيّة متحوّلة، متغيّرة، لا تكفّ البحث عن أفق شعريّ وجماليّ جديد. وقد جعلها هذا البحث تنتقل باستمرار من مرحلة إلى أخرى، ومن تجربة إلى ثانية. فقصيدة الأشعري لا تتجلّى على هيئة واحدة مرّتين. كلّ تجلّ يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بقصيدة جديدة. ولذا تُعدّ كلّ مجموعة شعريّة بمثابة خطوة جديدة في طريق القصيدة التي يحلم بكتابتها الشاعر؛ فمن "صهيل الخيل الجريحة" و"عينان بسعة الحلم" و"يومية النار والسفر" و"سيرة المطر" و"مائيات"، وصولًا إلى "سرير لعزلة السنبلة"، ثمّ "قصائد نائية" و"يباب لا يقتل أحدًا"، ظلّ الشاعر يرهف أدواته الفنّية، ويطوّر قصيدته باستمرار، يعيد النظر فيها، يشحنها بأسئلة جديدة.
هكذا تحوّلت قصيدة الأشعري شيئًا فشيئًا إلى خطاب استعاريّ يوسّع من دائرة معرفتنا ويتيح لنا استجلاء ما استخفى في نفوسنا وما استسرّ في العالم من حولنا.
قصيدة الأشعري هي أنموذج القصيدة الحديثة التي خرجت على ما استقرّ من أعراف لغويّة وتقاليد شعريّة، مؤسسة بذلك "أسلوبها" المخصوص ونبرتها المتفرّدة. إذ إن الأشعري ما فتئ السعي صوب لغة جديدة، لا تختلف عن اللغات التي تعاورها الشعراء فحسب، بل تختلف عن نفسها باستمرار، بحيث تصبح كلّ قصيدة جديدة ولادة للغة جديدة.
كلّ من يقرأ مجموعات الأشعري لا بدّ أن يلاحظ أنّ اللغة فيها ليست زجاجًا شفّافًا ننظر من خلاله إلى المضمون، بل هي زجاج معشّق، يشدّنا إليه، قبل أن يشدّنا إلى شيء آخر خارجهْ. أي إنّ اللّغة، في هذه المجموعات، لا تحاكي شيئًا ولا تنقل شيئًا، وإنّما هي عالم قائمٌ بذاته، مُفْعَمٌ بالحياة، منفتحٌ على كلّ الاحتمالات، حمّال لكلّ ألوان التفسير والتّأويل، فغاية القصيدة الحديثة، إيقاظ حسّ الدّهشة في القارئ، وتشكيكه في تأويلاته النهائية للأشياء، ودفعة إلى النّظر إلى العالم بعينين جديدتين.
بيد أن أهمّ ما يميّز شعر الأشعري، انطواؤه على نبرة مغربية لا تخطئها الأذن، وهي النبرة التي نعدمها في معظم الشعر المغربي. فكلّ من يقرأ قصائده لا بدّ أن يستنشق روائح المغرب ويصغي إلى خرافاته وأساطيره، بل لعلّه يبصر بضعة من مدنه وقراه، فالشاعر قادر، بنباهة فائقة، على قلب السمع بصرًا، على حدّ عبارة البلاغيين القدامى: "من/ زقاق صغير شمال المدينة / يقترح المدخل الحجري سماء/ وأجنحة/ وجدارًا / ولبلابة يابسة/ هي ذي زحمة العصر تبدأ تغريدها المرّ/ سوقاً فسوقاً يذوب العبير النباتي في بعضه/ تذوب الشبابيك في بعضها/ والزوايا".
لا ريب في أنّ الشاعر لا يعمد إلى وصف المدينة وإنما يكتفي، مقتفيًا أثر الرسامين الانطباعيين، ببعض اللطخات، ببعض الألوان، ليقول هذا المكان ويكشف عن "جوهره" العميق.
جماليّة هذه القصيدة، تتأتّى من الإيحاءات التي تشعّ بها الصور. إيحاءات تنبجس من الطاقات الكبيرة التي تنطوي عليها اللغة الشاعرة، أي الإيقاع والأصوات، كما تنبجس من الكلمات وقد تواشجت على نحو غير مألوف.
لكنّ الأشعري لم يقتصر على كتابة الشعر فحسب، بل كتب أيضًا الرواية والقصة القصيرة. ومن أهمّ أعماله السرديّة روايته اللافتة "القوس والفراشة" التي تسرد حياة أجيال ثلاثة من خلال سير شخصيّات ثلاث هي: الجد والابن والحفيد المتحدرون من أسرة آل الفرسيوي. تنتمي هذه الأسرة إلى قرية بومندرة بالريف وتسكن زرهون. وتصوّر الرواية، بحس دراميّ عميق، صراع الأسرة من أجل نحت مكانة اجتماعية لأفرادها بعد سنوات الغربة، عبر شراء أراضٍ وعقارات، ما أتاح لها منافسة شرفاء المنطقة والانتصار عليهم.
كل أعمال الأشعريّ السرديّة يشدّها خيطٌ ناظم، وهوالإحساس الفادح بالجور الاجتماعيّ، يحوّل الحياة إلى عبء ثقيل ويدفع الكتابة إلى أن تنهض بدور سياسيّ. فالأشعريّ إنسان شديد الانهماك في الحياة، والكتابة عنده ليست تعبيرًا عن حقائق النفس فقط، بل تعبير عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس. إنّ الإحساس بالخلل ينتاب كلّ شيء، لكأنّه إيقاع متواتر في كتابة الشاعر. فالكتابة طريقة نقد للحياة، ومحاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها. لا يعني هذا أنّ السرد تحوّل إلى محاكاة للعالم الخارجي أو وثيقة تحيلنا على أشياء قائمة في الواقع الموضوعيّ، كلا، إنّه حفر في نصّ العالم، وسعي إلى فهم تناقضاته، وطرق على الأبواب المغلقة، واحتجاج على ما استقرّ واستتبّ وبات معمّمًا وسائدًا.
(ناقد وشاعر تونسي)
المساهمون