09 نوفمبر 2024
محفل الخداع الاستراتيجي في أستانة
اتهمت الأمم المتحدة، على لسان منسق الشؤون الإنسانية، مارك لوكوك، روسيا بدعم المذابح في منطقة إدلب شمال سورية، وهي منطقة مشمولة بـ"خفض التصعيد". وطالب المنسق روسيا بوقف دعم النظام في حربه على المستشفيات وبقية المرافق المدنية، بما فيها الأحياء السكنية. وهي من المرات النادرة التي يتم فيها توجيه اتهام أممي صريح لموسكو، بينما جرت العادة على مطالبة موسكو بوقف دعم النظام في حربه المفتوحة على شعبه. وجاء هذا الموقف يوم 30 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، أي عشية التئام محفل أستانة في نسخته الــ13، والذي تنظمه موسكو وترعاه في عاصمة كازاخستان، ويضم روسيا وإيران وتركيا. وقد ترافق عقد هذا المحفل مع ثبات كل من إيران وروسيا على خوض الحرب ضد المعارضة، وضد البيئة المدنية التي توجد فيها فصائل المعارضة المسلحة. وقد استن هذا المحفل مصطلح "تخفيض التصعيد"، من دون أي تحديد له، ومع التصريح دائما بأن خفض التصعيد مؤقت، ومع تكرار نقض خفض التصعيد من طهران وموسكو مرة بعد مرة، ومن غير توقف، بما جعل من أستانة محفلاً للخداع الاستراتيجي المكشوف. وقد اختارت موسكو عقد المحفل هذه المرة في مطلع أغسطس/آب، بعد استعادة بلدتي تل مليح والجبين في شمال إدلب، وذلك بعد إمطار البلدتين بكل أنواع القذائف الثقيلة والبراميل المتفجرة وعشرات الغارات الجوية. ويراد من اختيار التوقيت استثمار هذا "الإنجاز" من أجل الضغط على المعارضة، وعلى تركيا، للقبول بحل واحد ومتدرج، وهو الشراكة من موقع ضعف مع النظام، ونسيان الحلول الدولية المتفق عليها.
أدّى محفل أستانة منذ انطلاقته، ووفقا للتخطيط الروسي، إلى إسدال الستار على مؤتمر جنيف، وعلى الرعاية الدولية للمفاوضات. كما أدى هذا المحفل إلى منح كل من إيران وروسيا صفة
"الضامنين"، علما أنهما لا تضمنان أي شيء سوى دفن الحلول السياسية للأزمة السورية، والتمكين من بسط النفوذ لهما على أنقاض الحياة البشرية والعمران. وبحُكم علاقاتها مع كل من موسكو وطهران، تشارك أنقرة في الاجتماعات منفردة، مقابل الثنائي الروسي والإيراني. وبينما يخوض هذا الثنائي الحرب بلا هوادة، تكتفي تركيا بدعمٍ منضبط للمعارضة المسلحة. وقد انعكس الخلل في تركيبة هذا المحفل على مخرجاته التي يجري توظيفها كل مرة لتيئيس الشعب السوري من المطالبة بحقوقه، من خلال الفتك بجموعه بلا توقف. وقد أدّت الحملة العسكرية أخيرا منذ إبريل/نيسان الماضي، والتي شاركت فيها وخططت لها موسكو، إلى مقتل نحو خمسمائة مدني وجرح الآلاف وتشريد أعداد هائلة (440 ألفاً)، وتقويض مظاهر الحياة في منطقة إدلب، من دون أن يرف جفن للفاعلين المنتشين في انتصارهم.
وخلال ذلك، يتم إلهاء تركيا بالمنطقة الآمنة التي يجري الحديث عنها منذ عامين تقريبا، وقد يستغرق البحث فيها عامين آخرين. أما الوعود بحماية المدنيين في إدلب فقد تبخرت. ومن مصلحة طهران وموسكو أن تنغمس أنقرة في مسألة المنطقة الآمنة على الحدود، وذلك لإقصائها عن كل ملف آخر، يتعلق بحماية المدنيين أو بمساعدة السوريين على تقرير مصيرهم. ولا يعني ذلك أن العاصمتين توافقان على تلك المنطقة، ولكن إلهاء تركيا عما يجري في منطقة إدلب هو ما يتصدر الاهتمامات الإيرانية والروسية. وحين تنجحان بطرد المعارضة من هناك، ولو أدى الأمر إلى تدمير إدلب وما حولها (لا سمح الله)، فإنهما ستنصرفان بعدئذ إلى معارضة أنقرة في سعيها إلى منطقة حدودية آمنة، والقول حيئنذ إن النظام هو من سيكبح الحركة الكردية، ويمنع أي تسلل كردي، أو أن يُطرح مقترح وجود قوات روسية وأميركية بصفة مؤقتة على الحدود، كما هو الأمر الواقع القائم الآن في منطقة الفرات، وبما يقضي حُكماً بسحب القوات التركية وتثبيت وجود القوات الإيرانية والروسية على الأرض السورية إلى ما شاء الله.
وسيكون من شأن الحلقة الجديدة من محفل أستانة التغطية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت، على مدار ثلاثة أشهر، وتقليص المنطقة المسماة بخفض التصعيد،
تمهيدا لجولة حرب لاحقة، تزج فيها روسيا كل أسلحتها بما فيها المحرّمة دوليا، كما فعلت من قبل، وحققت بذلك انتصاراتٍ "تاريخية" على المستشفيات والمراكز الطبية ومراكز الدفاع المدني. وفي هذه الأثناء، سوف تبذل موسكو كل ما تملك يمينها لعرقلة تحقيق دولي، تستعد له الأمم المتحدة، وفق ما صرح الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، حول ما جرى في منطقة إدلب على مدار 90 يوما. وهو طلب تقدمت به عشر دول من الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن، فحماية المدنيين وما تبقى من مرافق مدنية هي حماية لجبهة النصرة وفق موسكو! علما أن أفضل وسيلة لمناوأة "النصرة" في عرف موسكو، هي الفتك بالمدنيين، وكل مرفق مدني، بما في ذلك البيوت والأسواق الشعبية وتجمعات النازحين في العراء... ويحدُث ذلك بالتزامن مع الإفراج أخيرا عن مبايعين لتنظيم داعش في الجنوب السوري، لاستثمار وجودهم في جولاتٍ لاحقة.
من المثير أن يتم الانغماس في حفلة الخداع هذه منذ نحو أربعة أعوام، وأن تواصل تركيا المشاركة فيها، على الرغم من أنها تُمنى بالخسارة في كل مرة تشارك فيها، وإذا كانت هناك علاقات وحسابات متشعبة بين أنقرة وكل من طهران وموسكو، وبما يتعدّى المسألة السورية، فإنه يمكن البحث فيها ثنائياً، من دون المشاركة في مثل هذا المحفل الذي يُراد به إضعاف المعارضة، ومن خلفها الدور التركي أكثر فأكثر، وهو ما أثبتته مجريات الأحداث منذ أربع سنوات، إذ تنقض موسكو وطهران المخرجات والقرارات قبل أن يجف حبرها، فيما تتم ترجمة خفض التصعيد إلى زيادة التصعيد على الأرض وفي الأجواء، مع الضغط على تركيا لتحييدها، والهمس في آذان المسؤولين الأتراك بأنه لن يكون هناك خطر كردي عليهم من داخل الأراضي السورية، وأن طهران وموسكو لن تسمحا بذلك!
وخلال ذلك، يتم إلهاء تركيا بالمنطقة الآمنة التي يجري الحديث عنها منذ عامين تقريبا، وقد يستغرق البحث فيها عامين آخرين. أما الوعود بحماية المدنيين في إدلب فقد تبخرت. ومن مصلحة طهران وموسكو أن تنغمس أنقرة في مسألة المنطقة الآمنة على الحدود، وذلك لإقصائها عن كل ملف آخر، يتعلق بحماية المدنيين أو بمساعدة السوريين على تقرير مصيرهم. ولا يعني ذلك أن العاصمتين توافقان على تلك المنطقة، ولكن إلهاء تركيا عما يجري في منطقة إدلب هو ما يتصدر الاهتمامات الإيرانية والروسية. وحين تنجحان بطرد المعارضة من هناك، ولو أدى الأمر إلى تدمير إدلب وما حولها (لا سمح الله)، فإنهما ستنصرفان بعدئذ إلى معارضة أنقرة في سعيها إلى منطقة حدودية آمنة، والقول حيئنذ إن النظام هو من سيكبح الحركة الكردية، ويمنع أي تسلل كردي، أو أن يُطرح مقترح وجود قوات روسية وأميركية بصفة مؤقتة على الحدود، كما هو الأمر الواقع القائم الآن في منطقة الفرات، وبما يقضي حُكماً بسحب القوات التركية وتثبيت وجود القوات الإيرانية والروسية على الأرض السورية إلى ما شاء الله.
وسيكون من شأن الحلقة الجديدة من محفل أستانة التغطية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت، على مدار ثلاثة أشهر، وتقليص المنطقة المسماة بخفض التصعيد،
من المثير أن يتم الانغماس في حفلة الخداع هذه منذ نحو أربعة أعوام، وأن تواصل تركيا المشاركة فيها، على الرغم من أنها تُمنى بالخسارة في كل مرة تشارك فيها، وإذا كانت هناك علاقات وحسابات متشعبة بين أنقرة وكل من طهران وموسكو، وبما يتعدّى المسألة السورية، فإنه يمكن البحث فيها ثنائياً، من دون المشاركة في مثل هذا المحفل الذي يُراد به إضعاف المعارضة، ومن خلفها الدور التركي أكثر فأكثر، وهو ما أثبتته مجريات الأحداث منذ أربع سنوات، إذ تنقض موسكو وطهران المخرجات والقرارات قبل أن يجف حبرها، فيما تتم ترجمة خفض التصعيد إلى زيادة التصعيد على الأرض وفي الأجواء، مع الضغط على تركيا لتحييدها، والهمس في آذان المسؤولين الأتراك بأنه لن يكون هناك خطر كردي عليهم من داخل الأراضي السورية، وأن طهران وموسكو لن تسمحا بذلك!