محفزات اقتصادية لتطرّف المجتمع الإسرائيلي
تدل استطلاعات الرأي العام المتواترة في إسرائيل على تعاظم قوة اليمين، بشقّيه العلماني والديني، باطراد. وعادة ما يتم تفسير انزياح المجتمع الإسرائيلي المتواصل نحو التطرف إلى اعتبارات أيديولوجية ودينية، ويتم تجاهل العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن إغفال تأثيرها في دفع الإسرائيليين نحو التطرف في كل ما يتعلق بالموقف من الصراع مع الفلسطينيين. فبعد حوالي 48 عاماً على حرب 67 واحتلال الضفة الغربية، باتت قطاعات سكانية كثيرة في إسرائيل تعي أن تحقيق مصالحها الاقتصادية والاجتماعية يرتبط باستمرار هذا الاحتلال. ففي وقت تعاني فيه الأزواج الشابة في الكيان الصهيوني من مشكلة السكن، بسبب ارتفاع أسعار الشقق السكنية، الناجم، بشكل أساس، عن أسعار الأراضي الجنونية، فإن في وسع هؤلاء الشباب العثور على شقق سكنية في ظروف مثالية، في المستوطنات المقامة في أرجاء الضفة الغربية، بسبب انخفاض أسعار الأراضي، إلى جانب الدعم الحكومي السخي الممنوح للمستوطنين. فحسب قرارات الحكومات الإسرائيلية المتتالية، تعدّ الأغلبية الساحقة من المستوطنات ضمن مناطق "الأفضلية أ" التي تغدق عليها الحكومة المساعدات والمخصصات المالية، إضافة إلى تسهيلات في مجال الضرائب والتعليم، ما أدى إلى توجه إسرائيليين كثيرين وجدوا فيها حلاً لكثير من مشكلاتهم. مثلاً، إن كان متوسط سعر الشقة في منطقة وسط إسرائيل يصل إلى حوالي 300 ألف دولار، فإنه بالإمكان الحصول على فيلا في مستوطنة بـ 100 ألف دولار، يتم تسديدها على أقساط طويلة الأمد. فضلاً عن توسع الحكومات الإسرائيلية في الاستثمار في مجال البنية التحتية في المستوطنات، وهو ما أوجد فائضاً في فرص العمل. وهكذا، تحولت المستوطنات المقامة في الأراضي المحتلة إلى منطقةٍ لجذب أبناء الطبقات الفقيرة في المجتمع الإسرائيلي، وتحولت هذه المستوطنات إلى جهاز لتعويض الشرائح الفقيرة عن الأضرار الناجمة عن ارتفاع كلفة الحياة. ونظراً للثقل الكبير الذي يلعبه المستوطنون في الحياة السياسية والعامة في إسرائيل، لم يعد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة يمثل الخلاص من الفقر فقط، بل يعتبر بوابة للانضمام إلى النخبة الجديدة التي تبلورت في المجتمع الإسرائيلي. وهكذا، فتحت المستوطنات نافذة الفرص أمام الشرائح الدنيا للحراك الاجتماعي والاقتصادي.
وفي ما يتعلق بأتباع التيار الديني الحريدي، فقد يكتشفون، وإنْ في وقت متأخر، العوائد الاقتصادية للاستيطان في الضفة الغربية، بل وبشكل أساس، عوائده الاجتماعية أيضاً. فكما هو معروف، لم يظهر التيار الديني الحريدي حماسةً للإقامة في المستوطنات على الأراضي المحتلة بعد عام 67، وظل أتباعه، حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يقيمون، بشكل أساسي، في القدس ومدينة "بني براك" شمال شرق تل أبيب، لكن نسبة الولادات العالية لدى هذا التيار (متوسط عدد أفراد العائلة عشرة أفراد)، والحاجة الماسة إلى وجود وسط اجتماعي متجانس دفعا أتباع هذا التيار إلى اكتشاف مزايا الإقامة في مستوطنات خاصة بهم، في أرجاء الضفة الغربية. فقط منحت المستوطنات المقامة في الضفة الغربية أتباع التيار الحريدي بيئة مناسبة تلائم توجهاتهم الانعزالية، في ظل أدنى مستويات الاحتكاك مع المجتمع العلماني. من هنا، ليس مستغرباً أن أربعاً من أصل ست مستوطنات يهودية تحولت إلى مدن في الضفة الغربية، هي مستوطنات يقطنها المتدينون الحريديم: عموانئيل، كريات سيفر، معاليم إفرايم، بيتار عليت.
وبشكل عام، وفّر استمرار احتلال الأراضي المحتلة مصدراً لتعزيز الأوضاع الاقتصادية لقطاعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، فقد ضمن بقاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وحالة الحرب المتواصلة ازدهار الصناعات العسكرية الإسرائيلية التي تشغل عشرات آلاف الفنيين والخبراء والموظفين، فمتطلبات الأمن الناجمة عن بقاء الاحتلال وحالة الحرب أدّيا إلى دفع مجمعات الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى التوسع في الإنتاج العسكري والأمني وتطويره، كماً ونوعاً، مع كل ما يرتبط بذلك من توظيف طاقات بشرية كبيرة، فمئات آلاف الإسرائيليين يدينون للاحتلال في حصولهم على عمل في ظروف ممتازة، فحوالي مائة ألف إسرائيلي، يعملون في الصناعات العسكرية، ويختار عشرات آلاف الإسرائيليين مواصلة الخدمة النظامية في الجيش والأجهزة الاستخبارية والحصول على رواتب مغرية. وحتى عندما يتقاعد هؤلاء، فإن نوافذ الفرص تفتح أمامهم، حيث يتنافس القطاع الخاص على استقطابهم. من هنا فإن التوصل إلى تسوية سياسية للصراع سيؤثر تأثيراً سلبيّاً على الواقع المهني لهؤلاء وأسرهم.
ومن الواضح أن القطاعات السكانية التي استفادت، اقتصاديّاً واجتماعيّاً، من الاحتلال أصبحت ترى في منطلقات اليمين ضمانة لمواصلة الحفاظ على مصالحها، حيث ارتبط التحول "الإيجابي" في حياة المنتمين لهذه القطاعات بتواصل الاحتلال. وهذا ما يفسر رفض هذه القطاعات التسوية السياسية للصراع، على اعتبار أنها ستكون مرتبطة بتفكيك المستوطنات، أو بعضها، أي أن التسوية السياسية للصراع ستؤدي، حتماً، إلى انهيار منظومة المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي تتمتع بها.
ولقد فسرت الفئات الدنيا في إسرائيل انتقاد بعض أوساط اليسار المشروع الاستيطاني في الأراضي العربية المحتلة على أنه محاولة من الطبقة الوسطى لوضع الحواجز أمام الفرص التي منحها إياها الاحتلال، ومن أجل تعميق واقع اللامساواة على أساس إثني داخل إسرائيل. من هنا، وبدلاً من أن يتناول الجدل الإسرائيلي الداخلي قضية الاستيطان، من زاوية تأثيره على مستقبل التسوية، فإنه قد تم ربطه بالاستقطاب الإثني الطبقي، وهذا ما أثر على طابع القضايا المطروحة في الانتخابات.
ومن الواضح أن الذي يغلّب الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية عاملَ جذب للصهاينة للاستيطان في الضفة، هو تحسن الأوضاع الأمنية، بفعل تعاون السلطة وأجهزتها الأمنية. وهنا نذكر ما نقلته صحيفة معاريف، الأحد الماضي، عن ضابط كبير في قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال قوله: "أبو مازن أهم عامل استقرار للأوضاع الأمنية في الضفة، إنه يقدس التعاون الأمني معنا، قولاً وفعلاً".