فشل الصخيرات
نهاية العام الحالي، يكون قد مر على توقيع الاتفاق السياسي بين الأطراف الليبية في الصخيرات المغربية ثلاث سنوات، أثبتت أنه اتفاق لم يتعدَ الورق الذي كتب عليه، والمهرجان الذي نظّمه وقتها أمام مئات كاميرات وسائل الإعلام المبعوث الأممي السابق برناردينو ليون، والذي اتهم في تلك الآونة معارضيه بأنهم يمارسون المراهقة السياسية وبأنهم غير مدركين للتوازنات الدولية الراغبة في حل المشكل الليبي. ولكن اليوم، يبدو أن أغلب القوى تنصّلت من هذا الاتفاق، بعدما تبيّن أن تطبيقه على الأرض من المستحيلات الليبية، ودل على ذلك فشل كل محاولات تعديله بمساعٍ وطنية أو تلك التي جرت برعاية الأمم المتحدة. حتى أن حكومة الوفاق الوطني، وعلى الرغم من المساندة الدولية لها كأحد مخرجات هذا الاتفاق، كانت دليلاً آخر على عدم واقعية الاتفاق، فقد وقعت مع مرور الوقت وسط الأزمات لتصبح طرفاً في الصراع بدل أن تكون عامل وفاق.
وكانت أبرز بنود اتفاق الصخيرات قد نصّت على تأسيس مجلس أعلى للدولة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن.
ويبدو أيضاً اليوم أن الاتهامات التي أُطلقت وقتها حول تورط الإمارات في صياغة مشروع الاتفاق مع خلال شرائها "ذمة ليون" بمرتب شهري كبير لقاء وظيفة رسمية لديها، هي صحيحة، إذ مثّلت المادة الثامنة في الاتفاق المتعلقة بمنصب قائد الجيش وأن يكون المسؤول الأعلى على القوات المسلحة مدنيا يرأس السلطة السياسية في ليبيا، حجة مقنعة تمسك بها حليفها خليفة حفتر وداعموه في مجلس النواب لعرقلة تنفيذ الاتفاق. كما أن الإمارات من أبرز الدول التي دعمت حفتر بالسلاح، وصوّرته للرأي العام على أنه الأحق بمنصب قائد الجيش، وأن معارضيه هم من ضمّنوا تلك المادة في اتفاق الصخيرات وأنها فصّلت لإقصائه من منصبه الأجدر به. ونصّت المادة الثامنة على نقل الصلاحيات العسكرية والأمنية العليا إلى مجلس الوزراء الذي يتخذ القرار بشأن شاغلي هذه المناصب.
ومن أسباب فشل الاتفاق أيضاً، تضارب مواده التي يبدو أنها كانت تهدف لإغراق حكومة الوفاق في المشاكل الداخلية وإحراجها أمام الرأي العام الدولي، فاضطرت الحكومة للاحتماء بمليشيات تسيطر على طرابلس، كما أنها وقعت فريسة للخلافات بين مجلسي الدولة والنواب، اللذين لم يتفقا على شيء سوى انتقاد وشجب مواقفها وقراراتها.
ترنّح الخطة الأممية
وسط صراع سياسي وعسكري، كانت الأمم المتحدة تشهد منتصف العام الماضي تعيين شخصية جديدة لشغل منصب البعثة الأممية في ليبيا، وهو أمر استبشر فيه خيراً قطاع كبير من الليبيين، لأن شاغله هو السياسي اللبناني، غسان سلامة. وفور تسلمه لمنصبه في يوليو/تموز من العام الماضي، انخرط في لقاءات ومشاورات داخلية وخارجية، انتهت بإعلان خارطة عرفت باسم "الخطة الأممية" في 20 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تستوعب في جزء منها الاتفاق السياسي، لكنها في الوقت نفسه تتجاوزه في مسائل أخرى، في إعلان ضمني بفشل اتفاق الصخيرات.
خطة سلامة وقتها كانت تتضمن ثلاثة مسارات، إطلاق مشاورات لتعديل الاتفاق السياسي تقتصر على تعديل بنود "الجهة التنفيذية" لتشكيل حكومة موحّدة، بالإضافة إلى مسار يجمع كل الأطياف الليبية في "مؤتمر وطني جامع" في ما يشبه "مصالحة وطنية"، تسبق الوصول إلى المسار الأخير وهو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية للخروج من الوضع الانتقالي إلى الحالة الدائمة المستقرة.
لكن سلامة سريعاً ما اصطدم بواقع السياسة الليبية، فقد فشلت جهوده لتعديل الاتفاق السياسي للأسباب القديمة نفسها، وواجه رفضاً داخلياً لتنظيم مؤتمر جامع، من خلال إطلاق جهود داخلية موازية تطالب بتنظيم المؤتمر بعيداً عن تدخّلات الأطراف الخارجية. بل انتهت خارطته لتشتيت جهوده الرامية إلى تنظيم انتخابات عامة في البلاد على خلفية رفض أطراف في الغرب الليبي للتصعيد العسكري (عملية عسكرية في الجنوب تحت مسمى "فرض الأمن" في فبراير/شباط الماضي وعملية "تحرير درنة من الإرهاب" في مايو/أيار الماضي)، الذي اعتمده حفتر وحلفاؤه بهدف منع توفر مناخ مناسب للانتخابات.
بالتوازي مع ذلك، واجه سلامة تهماً تعتبره حليفاً للسياسة الفرنسية والإماراتية الداعمة لحفتر في ليبيا، لا سيما أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي اقتربت بشكل كبير من خطته المعلنة، من خلال لقاء رباعي رعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية مايو/أيار الماضي، انتهى إلى شبه اتفاق عُرف باسم "إعلان باريس" وتضمّن تفاصيل ومدداً زمنية لتنفيذ خارطة سلامة، على الرغم من أن فرنسا شددت على أنها مبادرة مستقلة منها.
أصيبت خطة سلامة بمرور الوقت بالشلل، فقد ركّز على الاتصالات بأطراف إقليمية ودولية، لا سيما مطلع العام الحالي، لها حلفاء في الداخل الليبي، بعد أن تأكد له أن الأزمة في البلاد تحكمها تشابكات معقّدة إقليمية ودولية، لكنه كرر الأخطاء السابقة التي وقع فيها من سبقه من المبعوثين الأمميين. فبدل ممارسة الضغوط على معسكر حفتر وإقناعه بالتخلي عن السلاح كحل للأزمة، وفرض شروط عليه لقبوله بالحل السياسي، سار في ركب السياسة الفرنسية التي كانت طيلة الوقت تحاول فرض حليفها حفتر كطرف في أي تسوية في البلاد، على الرغم من إصرار حفتر على الحل العسكري. وخلال إحاطته الأخيرة أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، أشاد سلامة بدور حفتر في "السيطرة العسكرية على درنة ومنطقة الهلال النفطي".
إحاطة سلامة قبل أيام أمام أعضاء مجلس الأمن، والتي وصفها مراقبون بـ"إحاطة ما قبل الاستقالة"، سيطرت عليها مشاعر "اليأس والإحباط"، فقد تحدث بوضوح وعلى خلاف إحاطاته السابقة، عن معرقلي ومفخخي العملية الانتخابية، حتى كاد أن يسميهم بالاسم. سلامة وهو يرحب بنائبته الجديدة، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني وليامز، ظهر وكأنه يهدد أولئك "المعرقلين" بواشنطن، وأشار إلى أنهم يستقوون بما هو أكثر من السلاح والمليشيات، فعلى الرغم من أنهم "قلة قليلة"، كما قال، إلا أنه اعترف بأنهم "قادرون على فعل الكثير خصوصاً وأنهم يتقلدون مناصب رسمية حيوية".
أما اللافت في إحاطة سلامة فهو أنها توجّهت في جزء كبير منها للأطراف الدولية الفاعلة في ليبيا، وإشارته بشكل واضح إلى أن الأزمة في البلاد ارتهنت للخارج، بقوله "إذا ما ارتأت ولو دولة واحدة من الدول الأعضاء أن تغرد خارج السرب، يمكنني أن أقول بأن هذه العملية ستدور في حلقة مفرغة".
وجاءت خاتمة التدخّلات الخارجية في تزايد الحديث عن دور أميركي فاعل في الملف، كشفه تراجع حدة تصريحات ساسة فرنسا وإيطاليا أخيراً، وتراجع مفاجئ لحفتر عن قراره الساعي للسيطرة على موارد النفط والسماح بعودة الإنتاج والتصدير، بالتوازي مع تعيين القائمة بأعمال السفارة الأميركية لدى ليبيا، ستيفاني وليامز، نائبة لرئيس البعثة الأممية. لكن ذلك الانخراط المفاجئ من قبل واشنطن لم تتكشف ملامحه بوضوح حتى الآن، كما أن أهدافه لا تزال غير واضحة.