فوجئ الجميع بمحاولة الانقلاب العسكري بتركيا الذي حوّل النقاش في الشارع التركي من كيفيّة تعويض بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة إعادة حكم الإعدام.
حسبنا لوهلة أنّ زمن الانقلابات انتهى في تركيا، خاصة بعد ما عاشه هذا البلد من تغيّرات إيجابيّة على المستوى السياسي والاقتصادي، منذ صعود العدالة والتنمية إلى الحكم. وهو ما يرجّح أنّ أهمّ أسباب محاولة الانقلاب تتمثّل في سياسة أردوغان الخارجيّة وأهمّها دعمه الربيع العربي واعتباره ظهيراً أساسيّاً لحركات الإسلام السياسي.
لقد مثّل نجاح أردوغان في السلطة ومن خلفه العدالة والتنمية حافزاً للإسلامييّن للدّخول إلى عالم الدولة الذي كان من محرّمات الأمس كما كان دور تركيا فعالاً في مساندة ثورات الربيع العربي. هذا الشيء الذي عكّر مزاج دوائر سياسية دولية وإقليمية وحوّل التجربة التركية من نموذج يحتذى به إلى هدف يجب القضاء عليه.
لم تشفع السنين الطويلة من الاستقرار السياسي تحت حكم أردوغان ولا النهوض الاقتصادي والاجتماعي الذي حققه الحزب داخل تركيا حتى ترفع بعض الجهات المشبوهة أياديها عن هذه التجربة.
نهوض تركي لم يخلُ من الأخطاء والعثرات، أيضاً، ولكن لم يكن متوقعاً أن يبلغ الأمر محاولة نسف الديمقراطية التركية ومواجهة نجاحات هذه الأمة بالدبابات والقصف الجوي.
فشل الانقلاب وأثبتت تركيا أّنها جديرة أن تكون في مصاف الدول الكبرى في العالم عبر ما تمتلكه من مقومات الديمقراطية. استطاع أردوغان أن يؤكد للعالم أنّه جزء من شعبه كما برهنت النخبة التركية وخاصة المعارضة على عمق وعيها المدني والحضاري، فلم تسارع لاستغلال الانقلاب للنيل من خصمها السياسي والأيديولوجي، على العكس تماماً. مع ما أثبته الشعب من رباطة جأش في وجه الانقلاب تؤكد استخلاصه للعبر من حكم العسكر في السابق وحجم تشبثه بمدنية دولته.
يحقّ لخصوم أردوغان نقده ولكن حجم الوعي الديمقراطي الذي ترسخ في الجماهير التركية ناهيك عن النخب في هذه السنوات كفيل أن يجعل منه زعيماً نجح في تحقيق دولة الشعب.
صرّح أردوغان في أحد التجمعات الشعبية أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنّ طريق الديمقرطية طويل.. وهو ما ينبئ بحسن قراءة الرجل للظروف المحيطة به وحذره الشديد على عكس أصدقائه من الحركات الإسلاميّة التي نجحت في الوصول الى الحكم، أخيراً، فهي سرعان ما اغترت بنجاحها الانتخابي البكر ولم تنتبه الى المعطيات والسياقات التي تدور من حولها.
على الرغم من صلابة عود التجربة التركية إلاّ أنّ ذلك لم يمنع خصومها من التربّص بها في مقابل يقظة القائمين على التجربة وحسن تفاعلهم مع المستجدات والدوران مع سبل تحقيق الاستقرار والديمقراطية أينما دارو، ويكفي النظر في بعض الخطوات الخلفية التي قام بها أردوغان دولياً قبل أيام من محاولة الانقلاب لإدراك مرونة الرجل.
هذه الحنكة السياسيّة كانت غائبة لدى إخوان مصر مما عجل بعودة حكم العسكر، ونسبيّة في صفوف إسلاميي المغرب الكبير التي لا تزال تجاربهم تترنّح.
محاولة الانقلاب مثلما تمثل درساً للسلاميين حديثي العهد مع السلطة بأن لا يغتروا وأن يمشوا في الأرض هوناً، مثلت امتحاناً لكثيرين من خصوم العدالة والتنمية في العالم. فخصومة الحزب أو زعيمه لا تعني التنكر للديمقراطية والتبرير لقوة السلاح للقضاء على المنافسين. وليس من الغريب أنّ نفس الجهات التي شرعنت للانقلاب على الديمقراطية أن تندّد بمعاقبة الانقلابيين.
ويبقى على تركيا والعدالة والتنمية خاصة أن يتخففا من كثير من الأعباء الخارجيّة والاهتمام أكثر بالقضايا الداخليّة للشعب الذي أثبت جدارته بدولة الرفاه والحريّة. مع اعتبار أنّ حماية هذا النموذج يمثّل دفعاً لكلّ أنصار الديمقراطيّة في العالم العربي والإسلامي ومحفّزاً للتغيير داخل أوطانهم.
(تونس)