تفرض جريمة نيوزيلندا الإرهابية طرح السؤال التالي: لماذا ينتعش الإرهاب المحلي في الغرب ضد "الآخر"؟ ولماذا يبدو وكأنه أخذ جرعة قوية من التجرؤ على الاقتحام وقتل هذا "الآخر" بالجملة وبخاصة في أماكن العبادة؟ هناك عدة حقائق في هذا الخصوص.
أولاً، إن نزعة الرفض للأقليات في الغرب تزايدت مؤخراً بالترافق مع صعود الخطاب الشعبوي السياسي الذي رفع القوى المتعصبة لهويتها إلى استلام السلطة في أكثر من بلد. ومع هذا الصعود انتشرت ثقافة التمييز وتحريك النعرات والعصبيات التي تنبذ المختلف عن "الأبيض"، سواء في لون البشرة أو العرق أو المعتقد أو الأصل والثقافة وغيرها. فهي تعتبر أن هذا "الغريب" عامل تهديد أو تشويه لـ"النقاء" المرغوب، وتتعامل معه كعبء. تارة تحمّله مسؤولية البطالة باعتباره يزاحم المواطن الأبيض على فرص العمل، وتارة أخرى لا ترى فيه غير مصدر تشويه وجالب للعنف والمخدرات وغيرها من المساوئ والشرور.
الرئيس دونالد ترامب دمغ مرارا وتكراراً المهاجرين واللاجئين من أميركا الجنوبية بهذه الصفات. وضع تجمعاتهم على الحدود الجنوبية في خانة "الغزو" للأراضي الأميركية. منع سفر مسلمي بعض الدول إلى أميركا. تحدث بتهكم عن دول أفريقية. خطاب تخويفي عزز الكراهية والنفور لدى الشرائح المحافظة والمتشددة في نظرتها إلى "الدخيل" على ديارها.
ثانياً، إن هذا الخطاب أوجد بيئة سمحت أحياناً للتطرف الرافض بترجمة غضبه عن طريق العنف الانتقامي الدموي المريع. حصل ذلك في تظاهرة العنصريين البيض في مدينة شارلوتسفيل صيف 2017. ثم تكرر المشهد بصورة أشرس وأوسع في هجوم أحد هؤلاء العنصريين على معبد يهودي في مدينة بتسبرغ في أكتوبر الماضي وقتل 11 من المصلين.
بعد هذه الأحداث ازداد التحذير من تفريخ الإرهاب المحلي في أميركا، والذي كشف عن وجهه كحقيقة قائمة تقتضي معالجتها قبل استفحالها. جهات وهيئات وأوساط إعلامية وفكرية عديدة دقت جرس الإنذار، لكن نغمة الاستعلاء بقيت على حالها.
ثم جاءت قضية النائبة إلهان عمر التي اتهمت بمعاداة السامية، ليستغلها اللوبي الصهيوني وحلفاؤه من اليمين الأميركي المتطرف في شحن الأجواء بالمزيد من الإسلاموفوبيا. كما أعطت مادة لمنظري اليمين المنادي بوجوب العودة إلى "صفاء القبيلة" كما يسميها الكاتب والسياسي المحافظ العتيق باتريك بيوكانن. فهو يرى أن "التنوع" في المجتمع وتعدد معتقداته وإثنياته وقبائله وثقافاته وأيديولوجياته هي مصدر "لتمزيقه".
في بلد قام أصلاً على الهجرة متعددة المشارب، يمثل هذا الكلام الصادر عن صاحب قلم مؤثر، وصفة تحريض ضد غير الإنغلوساكسوني. كما يستفز الأقليات التي ازدادت مخاوفها، وخصوصاً أن جهات أميركية ليبرالية كثيرة، تأخذ على الرئيس تعاطفه مع دعاة الصفاء العرقي الأبيض. رد فعله على مجزرة نيوزيلندا اقتصر على التعزية من دون تصنيف الفاعل في منزلة الإرهابي ووضع مجزرته في باب جرائم الكراهية، مع أن مانيفستو القاتل لم يترك مجالا للشك في دوافعه العنصرية.
ثمة من يعزو تنامي هذا الإرهاب إلى ضمور الديمقراطية في الغرب. هبوطها الذي نتج عن تأزم نظامها أدى إلى اختلالات عجز عن إصلاحها. آخرون يرون فيه ترجمة لثقافة عنف جاءت شيطنة "الغرباء" لتفجّره.
فريق ثالث يقول إن الإرهاب واحد من سمات المرحلة الراهنة في العالم ويختصر اضطرابها ببدائية متوحشة تحصد الأبرياء بالجملة، غيلة وكراهية. يختار الساحات والأمكنة الرخوة ليضرب ضربته ثم يكمل تجواله في الساحات الأخرى. استهدافاته المتقابلة تعيد التذكير بنظرية صموئيل هنتينغتون عن صراع الحضارات. سيناريو خطير ومخيف.