مجزرة الأبيّض: جنجويد في أرض شيكان

03 اغسطس 2019
+ الخط -
بمناسبة المجزرة البشعة التي راح ضحيتها خمسة من طلاب المدارس الثانوية وجرح العشرات بمدينة الأبيض في ولاية كردفان بغرب السودان يجب ألا ننسى شيئين:

أولاً: علينا ألا ننسى أن مدينة الأبيض كانت وما زالت حاضنة لكتائب أحمد هارون البائد التي كونها من "الجنجويد" ووفر لها التمويل من أموال الشعب، ليتمكن من إحكام قبضته على المدينة الإستراتيجية وقد كان له ذلك. ولكن معلوم أيضاً أن أنشطة القتل والتشريد التي ارتكبتها هذه المليشيات التي تأتمر بأمره جعلت منه مطلوباً للعدالة الدولية كرئيسه المخلوع عمر البشير. في العام 2003، وجهت له العدالة الدولية الاتهام بتشريد نحو 20 ألف شخص من سكان دارفور من منازلهم بقرى منطقة قودوم والمناطق المحيطة بها.

كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2007 مذكرة اعتقال بحقه تضمنت 20 اتهاما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، و22 اتهاما بارتكاب جرائم حرب.

وعندما ضاقت الدائرة على الرئيس المخلوع عمر البشير أثناء الاحتجاجات التي اندلعت في ديسمبر/كانون الأول 2018 مطالبة بتنحيه عن سدة الحكم، بات يخشى على نفسه من غدر أعضاء الحركة الإسلامية، لجأ لإحاطة نفسه بالمخلصين له، وكان أحمد هارون على رأس هؤلاء المقربين الذين يثق فيهم، إذ تنازل له البشير عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وعينه في ذات الوقت نائبا لرئيس الجمهورية.

لذلك، سرعان ما تحركت كتائب هارون من مدينة الأبيض نحو العاصمة الخرطوم، وقد التقط الثوار بهواتفهم النقالة صوراً لحافلات تنقل مجموعات من هذه الكتائب نحو منطقة الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش.

ثانياً، يجب ألا ننسى الصراع الكبير والكراهية الدفينة بين قوات أحمد هارون و"جنجويد حميدتي" للدرجة التي ظهرت للعلن في مقابلة تلفزيونية شهيرة عبر قناة "سودانية 24" كال فيها حميدتي السباب جهاراً نهاراً لهارون قائلاً: "إن أحمد هارون مكانه السجن، ولا يصلح أن يكون والياً لولاية كردفان".

زبدة القول أن مجزرة الأبيض التي جاءت بعد يومين من إعلان نتيجة التحقيق في مجزرة فض الاعتصام من أمام القيادة العامة، والتي جاءت بدورها عقب التوقيع على اتفاق أديس أبابا، مصحوبا بالإعلانات السمجة والمتكررة عن المحاولات الانقلابية، وسط قطوعات الكهرباء والماء عن المواطنين والزج بهم في غياهب الظلمات عمدًا، كل ذلك ما هو إلا حلقات من سيناريو طويل محكم الإعداد تلعب فيه أذيال الحركة الإسلامية أدواراً موزعة بإحكام، غير عابئة بروح الشباب والأطفال وقلوب الأمهات. يتصارعون على مكاسب ومناصب الدولة وتقسيم البلاد لمناطق نفوذ، كل منهم يريد أن يحكم سيطرته على أكبر مساحة من أقاليم السودان الغنية. يفعلون ذلك وضميرهم مرتاح، لا ترمش لهم عين فهم في طغيانهم يجدون أنفسهم أعلى وأسمى من أن ينظروا إلى عيون ضحاياهم.

استبدلوا المصحف بكتاب "الأمير" لمكيافيللي وحفظوا صفحاته عن ظهر قلب، واستبدلوا آيات الرحمة والعدل والإحسان بأفكار ميكيافيلي التي تحث الحاكم على "أن يسفك الدماء بكثرة مرة واحدة في بداية حكمه وذلك أفضل من أن يكون سفكه للدماء على مراحل متقطعة وذلك حتى يأمنه شعبه".

للخروج من هذا الكابوس الفظيع، يتوجب على ممثلي الشعب من قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، عدم الزج بالأطفال في مهالك أخرى، وكذلك حماية مواكبهم لأننا لا نستطيع منعهم من الخروج للاحتجاج ضد الظلم والقتل الذي لحق بأصحابهم الشباب.

يجب الضغط على المجلس العسكري بوسائل ثورية أخرى كالاعتصامات ومحاصرته داخليا وخارجيا، وضرورة الإسراع في تعيين حكومة مدنية مؤقتة من 15 وزيراً، لتسيير الأمور العاجلة وفرضها كأمر واقع. فالدول العظمى تدار بواسطة عدد محدود من الكفاءات. في فرنسا مثلا بعد وصول ماكرون الى السلطة في العام 2017 تم تعيين 18 وزيرا نصفهم من النساء وجاء اختيارهم من اليسار واليمين والوسط والمجتمع المدني. 

وفي تونس التي تعتبر نموذجا شبيها بالحالة السودانية، حدث فراغ دستوري مرتين على التوالي منذ العام 2011، هروب بن علي ووفاة الباجي قائد السبسي، ومع ذلك لم تنم تونس ليلة واحدة بدون رئيس! فإذا توفرت الإرادة وخلصت النوايا، وتسامى الجميع فوق الأطماع الشخصية، وأصبحت أرواح الشهداء ودماؤهم ذات قيمة عزيزة، أصبح السودان حينها شيئاً مذكوراً.

تحية كبيرة لشباب وشابات مدينة الأبيض، البواسل على وقفتهم الصلبة أمام الرصاص في مشاهد بطولية تذكر بأجدادهم الذين هزموا جيش هكس باشا Hicks Pach في عام 1883 في معركة الأبيض الشهيرة بمعركة شيكان.

E6AEAAF1-E0C9-436A-954B-1242187C3A54
الصادق أحمد عبيدة

مترجم قانوني وكاتب وناشط في مجال حقوق الإنسان، ومسؤول قسم الترجمة بمحكمة بوبيني في باريس.