كانت أضواء خافتة تنير بعض الأماكن وإن في فترات متباعدة. لا أذكر الوقت، لكنها أنستني الضوء الذي لطالما رأيته، ومنذ زمن طويل، في آخر النفق، وقد حاولت جاهداً الوصول إليه. وكلّما اقتربت بضع خطوات منه، ابتعد عني أكثر. وأذكر أنه في أسفل كل ضوء خافت، كانت هناك أشياء وخربشات وصور مرتبطة بتجارب مررت بها. ومع الوقت، حوّلت هذا النفق المظلم إلى متحف خاص، وقد بتّ زائره الوحيد وحارسه وصانع الفوضى فيه.
وكلّما تسنى لي الوقت، هربت من واقعي إلى أضوائي الافتراضية الخافتة، على أمل أن أشعل بعضها أكثر فأكثر وأطفئ أخرى. في لحظات كهذه، كنت أحاول تأملها والعبث بها. وقبل أن تبدأ الأضواء بإنارة كل ما حولها، كانت الأشياء التي ألمسها مجرد نتوءات على حائط مظلم بعضها أملس وبعضها الآخر جارح كزجاج مكسور، أو مجوف كجحر أفعى مهجور. والضوء الوحيد الذي كنت أراه، هو ذلك القابع في نهاية النفق.
لماذا أعتبره نهاية النفق؟ ربما هو بدايته وأنا من يسير في الاتجاه المعاكس، كوني رجلاً أربعينياً يبحث عن مراهقته ليعيدها ويعيد نزواتها وخيباتها وانتصاراتها والكثير من الوجوه الجميلة.
مع هذه الأضواء الخافتة، بدأت رحلة جديدة. وكانت البداية من خلال خربشات مبعثرة بين الوجوه وبعض الكلمات والكثير من الصور والأصنام الباردة. كانت تلك الخربشات عبارة عن كلمات وخطوط متداخلة غير مفهومة كمؤشرات البورصة، التي حاولت مراراً تعلمها من دون جدوى. ومع مرور الوقت، صرت قادراً على فك رموزها مثل بصارة تعرف خبايا الأمور. وكلما حللت عقدة أو رمزاً، يتوهج ضوء في مكان ما على حائط النفق، أو متحفي الخاص كما أسمّيه.
رأيت فيلماً صامتاً بألوان خافتة لأطفال يلعبون عند طرف النهر. وفي مشهد آخر، كان هناك اجتياح وحواجز وحروب تافهة. وعلى الطرف الآخر من المتحف أصنام باردة متراصة، والقليل من الأشخاص النابضين بالحياة. وكان هؤلاء يلاحقونني بنظراتهم ويحاولون التحدث إلي. أما أنا، فأبحث عن الجحور التي كنت ألمسها. لاحقاً، أغمضت عيني علني أعود إلى الحالة الأولى قبل ظهور الضوء. بدأت رحلة البحث من جديد علني أجد تلك الجحور. وبعد محاولات عدة وجدتها عن طريق اللمس. أعدت البصر إلى عيني، فكانت عبارة عن فتحات صغيرة للتهوئة في حائط المتحف. وضعت يدي في داخلها، وكان في داخلها مواعظ ونوتات موسيقية وأوراق فارغة ولوحات رسمتها في صغري.
حلّلت الكثير من الرموز، وتوهّج جزء لا بأس به من النفق. صارت الرؤية أوضح، وتراجعت عن فكرة الوصول إلى ضوء في آخر النفق أو أوله. هذا لا يهم. عدت إلى واقعي بكل تفاصيله، لأعود مجدداً إلى متحفي وأنير ما تبقى من أضواء.