21 مايو 2019
مجاعة جبل لبنان 1915
كيف ساهم ثالوث "البيئة والحصار والتجويع" في القضاء على نصف سكان جبال لبنان؟.. يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي بأن المجاعة حساسة طبقياً، تصيب الفقراء ويعفى منها الأغنياء.
سجل التاريخ منذ فجر التدوين، العديد من المجاعات التي حصدت مئات الملايين من الأرواح البشرية، وإذا قمنا بإحصاء دقيق لعدد البشر ضحايا المجاعات التي حصلت، فقد نحصل على رقم كبير جداً قد يفوق جميع ضحايا حروب الإنسان المفتعلة.
تحصل المجاعة عادة في حالة ندرة الغذاء، التي تكون مصحوبة بسوء تخطيط إداري من قبل برامج الحكومات، أو نتيجة للأحوال البيئية والجوية غير المتوقعة، مثل الجفاف والفياضانات أو ربما نتيجة لقمع الحكومات لشعوبها وانتهاجها سياسات التجويع (حكومة كمبوديا الشيوعية "الخمير الحمر" نموذجاً)، أو ربما بسبب الحصارات العسكرية التي كان أشدها فتكاً حصار الجيوش الألمانية لمدينة لينينغراد الروسية أعوام (1941 - 1944) بالتزامن مع درجة برودة عالية وصلت إلى "-40 مئوية تحت الصفر"، قتل فيها ما لا يقل عن مليون شخص.
لكن من النوادر أن تكون المجاعات نتيجة لكل ما سبق من الأسباب مجتمعة، أي (تجويع وحصار وظروف بيئية) إلا في حالات نادرة سجل التاريخ واحدة منها في جبل لبنان عام 1915.
مقدمة تاريخية
عام 1860 بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان بين المسيحيين الموارنة والمسلمين الدروز، ونتيجة للتدخل الأوروبي المباشر في الشؤون الداخلية للسلطنة، أو في ما عرف لاحقاً بالمسألة الشرقية حصل جبل لبنان نتيجة جهود الدول الخمس الأوروبية وفي الطليعة فرنسا على حكم شبه ذاتي، تحت مسمى نظام المتصرفية - جبل لبنان - يترأسه متصرف عثماني مسيحي ويعاونه مجلس إداري من 12 عضوا يمثل الطوائف اللبنانية كافة. وعلى الرغم من وجود تأثير عثماني غير مباشر، إلا أنه كان تأثيرا محدودا وضعيفا فالمتصرفية أصبحت تحت الحماية الأوروبية وغير تابعة للباب العالي إلا بالاسم، فعاشت البلاد نهضة اقتصادية اعتمدت بالدرجة الأولى على تصدير الحرير إلى أوروبا وبالتحديد إلى فرنسا، أحصي في جبل لبنان نحو 200 مصنع لخيوط الحرير، يعمل بها ما يقدر بـ 14 ألف شخص (العاملون في قطاع الحرير مثلوا ما نسبته 41% من السكان) تنتج 500 ألف كلغ من الخيوط كل عام، إلى جانب موسم التوت الذي غطت أشجاره 40% من المساحات المزروعة للمتصرفية بالإضافة إلى موسم الزيتون، ونشط مرفأ بيروت التجاري وأصبح مركزاً مهماً ومقصوداً في حركة الاستيراد والتصدير. أما على الصعيد العلمي والأدبي فأصبحت المتصرفية وولاية بيروت مركزا ثقافيا هاما، بعد تأسيس العديد من الجامعات والإرساليات التي ساهمت بدورها في بروز حركة النهضة العربية، ولم يعكر هذا الجو الإيجابي - إذا استثنينا وتيرة الهجرة الطوعية للسكان - لطيلة 54 عاماً سوى الحرب الإيطالية - العثمانية التي اندلعت عام 1912 وانتهت بهزيمة الباب العالي بعد إبادة أسطوله الراسي في بيروت في فبراير/ شباط عام 1912، وقتل نحو 70 مدنياً ودمرت المباني الساحلية للمدينة، لكن الأحداث التي ستغير وجه البلاد باتت قاب قوسين أو أدنى.
دخول الباب العالي الحرب إلى جانب ألمانيا كان له ثمن سوف يدفعه سكان بيروت وجبل لبنان.
الأسباب
اندلعت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ودخلت السلطنة الحرب الكبرى إلى جانب ألمانيا في نهاية عام 1914. ونتيجة للانقسام الأوروبي الجديد أصبح من السهل على حكومة "الباشاوات الثلاث"، (إسماعيل - طلعت - وجمال) اعتبار جميع البلاد التي تتمتع بحكم ذاتي وحماية أوروبية جزءا لا يتجزأ من المجهود الحربي للبلاد، فدخلت الجيوش العثمانية المتصرفية قادمة من دمشق عبر زحلة، وأعلن جمال باشا وزير البحرية وقائد الجيش الرابع الأحكام العرفية، فأوقف العمل بالنظام الأساسي واستبدل المتصرف المسيحي بآخر مسلم. ونتيجة لهذه التطورات أصبحت المتصرفية خاضعة لظروف الحرب وأحوالها، كانت ردة الفعل العثمانية عنيفة تجاه سكان الجبل الذين أسسوا حركات سرية هدفها الحصول على دعم الحلفاء للتخلص من الحكم العثماني، ففرض التجنيد الإجباري والسخرة على السكان، ومن وجهة نظرهم فقد اعتبروا المسيحيين - 79% من سكان الجبال - خونة ملحقين بفرنسا وهم السبب الرئيسي في منع السلطنة من التدخل في الشؤون الداخلية للمتصرفية.
قُطعت طريق الإمداد على الجيوش العثمانية، فتعذر دخول السلع القادمة من مصر وتحويلات المغتربين.
أتت ردة الفعل الأولى من الحلفاء على الدخول العثماني الحرب إلى جانب ألمانيا، بضرب حصار بحري محكم على الطرق التجارية البحرية الدولية كافة والموانئ العثمانية، من أجل قطع طريق الإمداد عن الجيوش العثمانية والألمانية، ما عذّر دخول السلع القادمة من مصر وتحويلات المغتربين، ولمواجهة الطوق البحري قامت السلطنة بتبني سياسة احتكار الموادّ الغذائية ومنع إدخال القمح والحبوب إلى الجبال بل جعلها أولوية لإطعام الجنود العثمانيين، كما قام جمال باشا بمنع دخول الموادّ الغذائية التي كانت تأتي من البقاع ودمشق إلى جبل لبنان خدمة للمجهود الحربي، فتأثرت أراضي الجبل لأن أراضيه لا تؤمّن الغذاء إلا لـ 4 أشهر في السنة.
حصار عثماني بري وآخر أوروبي بحري، وللطبيعة رأي مماثل، غزت سماء لبنان في عام 1915 أسراب هائلة من حشرة الجراد قضت على ما تبقى من المحاصيل الزراعية للجبل..
رافق كل هذه الإجراءات عمليات التبادل في السوق السوداء، وبرزت شبكات تجارية احتكارية فارتفعت الأسعار بشكل مخيف، وأصبح الحصول على القمح والحبوب من حلب لا يتم إلا بدفع الرشاوى إلى المسؤولين العسكريين، ومع الحصار البرّي العثماني وسياسة منع دخول الموادّ الغذائية إلى الجبال وبيروت، وآخر أوروبي وقطع طريق الإمداد كان للطبيعة رأي مماثل، فقد اجتاحت سماء لبنان عام 1915 أسراب هائلة من حشرة الجراد قضت على ما تبقى من المحاصيل الزراعية داخل الجبل اللبناني، التي كانت ستسد رمق السكان في ظل الحصار والاحتكار ومصادرة الحيوانات التي كانت تستخدم في النقل والمحاصيل، وقد تكاثرت هذه الحشرة بفعل عدم استخدام ورشّ المبيدات الكفيلة بالقضاء عليها ما ساهم بتكاثرها.
حلّت الكارثة، وضربت المجاعة، وبدأ شبح الموت يحصد الأرواح دون رحمة وتوقف، فبحسب بعض المصادر قتل نحو 200 ألف نسمة من سكان جبل لبنان البالغ عددهم 400 ألف، أغلبهم من المسيحيين، أي في المناطق التي تشهد انتشاراً مسيحياً أكثر والواقعة شمال طريق بيروت - دمشق، في حين ذكرت بعض المصادر وقوع نحو 180 ألف ضحية بينما يقدّر إحصاء للصليب الأحمر الأميركي عدد ضحايا الجوع في جبل لبنان عام 1917 بـ 250 ألف نسمة من أصل 400 ألف.
تقارير عن حالات أكل لحوم البشر
وعلى الرغم من انتهاء الأزمة، إلا أن وتيرة سقوط الضحايا من السكان لم تنحسر حتى ما بعد انتهاء الحرب وانسحاب العثمانيين، وفك الحصار البحري والبري، إذ مات نحو 50 ألف شخص بفعل الأمراض والأوبئة مثل التيفوئيد والكوليرا، وروى العديد ممن شاهدوا أبشع مظاهر المجاعة في لبنان أوضاع السكان عن حالات لا يمكن للعقل البشري أن يتحملها، من معاناة الرضع والأطفال وتقديم بعض النساء الخدمات الجنسية للحصول على رغيف خبز، أو بيع الأراضي مقابل حصص غذائية وصولاً إلى التهام الناس الجثث، فقد ذكر أحد المصادر أن أحد الكهنة الجزويت (اليسوعيون) أتاه رجل يعترف له بأنه قام بقتل طفليه البالغين من العمر 8 و10 سنوات ليقتات منهما.
في الذاكرة الشعبية والفنية والأدبية
عام 1915 حمل إبراهيم نعوم كنعان كاميرته، وجال بها في أرجاء متصرفية جبل لبنان ليلتقط صوراً عن مأساة المجاعة، موثقاً لأكبر كارثة حلّت على السكان في تاريخ جبل لبنان.
عاشت المجاعة في الذاكرة الجماعية الاجتماعية والأدبية للبنانيين، وما زالت تفاصيل أحداث تلك الأيام حديث اللبنانيين مذكورة في الأدب والشعر، تذكر بما حصل بفعل الإجراءات العسكرية والسياسية للسلطنة والحلفاء وغدر الطبيعة على حد سواء، وكيف كانت جثث الأطفال تلقى بين أكوام النفايات، وتعتبر رواية "الرغيف" الوجدانية للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد من أفضل الأعمال الأدبية التي عبّرت عن معاناة ذلك الزمان، والقصيدة الشعرية "مات أهلي" لجبران خليل جبران، أما الأمير شكيب إرسلان فقد حمّل الجميع مسؤولية ما حدث داحضاً الأقوال التي تحدثت عن مسؤولية عثمانية قائلاً (...) فالذي يقصد "التجويع" لا بد هو أن يكون شبعان لا جائعاً في إشارة إلى سوء الحالة التي وصلت إليها القيادة العثمانية في تأمين قوت عناصرها.
النتائج
حوّلت المجاعة شعباً كان صاحب أكبر تجربة اقتصادية ناجحة في بلاد الشام، إلى جماعة من المشردين الجائعين، هرب العديد من الناس إلى خارج البلاد بحثاً عن الطعام والمأوى، ولقي العديد منهم حتفهم على الطريق إما بفعل التعرض للظروف المناخية الصعبة وإما نتيجة لغزو قطّاع الطرق وسلبهم حاجياتهم.
حملت المجاعة التي حلت بجبل لبنان، والحرب العالمية الأولى نتائج سياسية وديمغرافية جغرافية، فبقصد تأمين الاكتفاء الغذائي الذاتي والتقسيم الطائفي لتركة السلطنة العثمانية، تأسس لبنان الكبير كنتيجة لمؤتمر السلام، وتقسيم النفوذ ما بين فرنسا وبريطانيا، فضمت إليه أقضية جديدة هي بعلبك والبقاع وعكار والجنوب، ودخلت البلاد مرحلة الانتداب والوجود الفرنسي المباشر، كما طغت على تلك الفترة مظلومية مسيحية استخدمت لأغراض مختلفة توجت بامتيازات سياسية في النظام الجمهوري الجديد، أما النتائج الديمغرافية فقد تمثلت بالهجرة الكبيرة للعديد من سكان جبل لبنان إلى الخارج.