مجازر العالم.. اعترافات قد تليها مصالحات

25 أكتوبر 2016
ناجية (يوليت افانساستي/ Getty)
+ الخط -
البلد ليس معروفاً ولا حتّى الأعداء. في يومٍ من الأيام، تقاتلوا وكانت الدماء تُسفك. وفي سنوات لاحقة، عملت محاكم جنائية ومنظّمات حقوقيّة على "فرزهم" بين قتلة وضحايا. بلادٌ كثيرة انخرطت في حروبٍ أهلية أو إقليمية أو إبادات جماعية. و"الحقّ" دائماً مع جميع الأطراف لأنّه "وجهة نظر"، أقلّه قبل الفرز.

بعد أي حربٍ أو نزاع، يصير التعايش واقعاً لا مفرّ منه. هذا في الظاهر. لكنّ ما في القلوب قادر على توليد المزيد من الصراعات. سارت دولٌ في نهج المصالحة، واعترف البعض بارتكاب جرائم وطلبوا العفو. عُدّت بعض التجارب ناجحة نسبياً، منها تجربة جنوب أفريقيا، بعد التطهير العرقي الذي استمرّ أعواماً طويلة.

قبل 51 عاماً، وفي مثل هذا الشهر (أي أكتوبر/ تشرين الأوّل)، قتل على الأقل نصف مليون شخص في إندونيسيا. في عام 2015، جمعت المحكمة الشعبية الدولية أدلّة تدين الحكومة الإندونيسية بسبب القتل الجماعي بحق الشيوعيّين في عام 1965. وأوصى القضاة الحكومة الإندونيسيّة بالاعتذار للضحايا وأسرهم، والتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية، وضمان حصول الناجين على التعويض المناسب. لكن في الذكرى الخمسين، رفض الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، خلال خطاب له أمام مجموعة من قادة الحركة المحمدية في البلاد، الاعتذار عمّا حصل في ذلك الوقت.

أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة "جاكرتا غلوب" في عام 2009، أن أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم، وهم طلاب جامعيون، لا يعرفون شيئاً عمّا حدث، علماً أنّ تقريراً لوكالة الاستخبارات الأميركية كان قد وصف ما حصل بـ "إحدى أسوأ جرائم القتل الجماعي في القرن العشرين"، تُضاف إلى "عمليات التطهير السوفييتية في ثلاثينيات القرن الماضي، والقتل الجماعي النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وجرائم الماويين في خمسينيات القرن الماضي".
وقبله، تحديداً في عام 2014، أعلن أحد الوزراء في الحكومة الإندونيسية رفضه نتائح لجنة حقوق الإنسان التي دانت جرائم القتل هذه، قائلاً إن ما حدث "كان ضرورياً في ذلك الوقت".
لم تحصل مصالحة في إندونيسيا، ولم يعترف أحد من القتلة بجرائمه. الأعداء السابقون، أو القتلة والضحايا لاحقاً، يعيشون جنباً إلى جنب. القتلة يظهرون في فيلم "نظرة صمت" (ذا لووك أوف سايلنس) للمخرج الأميركي ـ البريطاني جوشوا أوبنهايمر، ويحكون عما ارتكبوه، وكيف سحلوا الضحايا إلى النهر وقتلوهم وفصلوا الرؤوس عن الأجساد قبل رميها في النهر. ما زالوا يذكرون استغاثات الناس. وحين واجههم شاب قتل شقيقه، رفضوا الاعتذار. فهذا ماضٍ يجب نسيانه، ولا داعي للتذكّر.

في هذا السياق، تقول المعالجة النفسية سينتيا غيبيرت: "حين نُسامح الآخرين على الفور، من دون أن يُظهروا أي ندم أو توبة، فهذا يعني أنّنا نرضخ مجدّداً لحكمهم. علاوة على ذلك، فإن الغفران السريع من دون أي شعور بالمسؤولية، لا يفرض على الجاني أن يعيد التفكير ويتغيّر".

قتل ابني

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية كانت قد نشرت اعترافات لقتلة وضحايا بعد المصالحة في رواندا. من خلالها، أظهرت أن الاعتراف بالجريمة، وطلب العفو، قد يساهم في إعادة اللحمة بين المواطنين. يقول نتامبرا (القاتل): "أثناء الإبادة الجماعية في عام 1994، شاركت في قتل ابن هذه المرأة. اليوم، نحن عضوان في مجموعة الوحدة والمصالحة نفسها. نتشارك في كلّ شيء. إذا احتاجت بعض الماء، أجلبه إليها. لا نشك في بعضنا بعضاً. كنت أرى الكوابيس في الليل بسبب هذه الأحداث. اليوم، أستطيع أن أنام بسلام. نحن مثل أخ وأخت".

موكاموسوني (الضحية): "قتل ابني، ثم جاء يطلب مني العفو. سامحته لأنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه. كان الشيطان يسكنه. سررت لأنه اعترف بجريمته، فإبقائها في الخفاء أكثر إيلاماً. قبل أن أمنحه العفو، لم يكن يقترب مني. كنت أعامله مثل عدو. لكن اليوم، أفضّل أن أعامله كما لو أنه طفلي".

ويقول أستاذ حلّ النزاعات ومدير منظمة "سيرش فور كومون غراوند"، شيب هوس: "رغم أنّ المصالحة تعني أشخاصاً يتحدّثون بعضهم إلى بعض، إلا أن تحقيقها ليس سهلاً، بل قد تكون أحد أصعب الأمور على الإطلاق. على الضحية مسامحة الظالم. ويجب على مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية الاعتراف بذنوبهم وعنجهيّتهم".

في عام 2005، أصدر أستاذ علم النفس الاجتماعي، نيبوجا بيتروفيتش، بحثاً حول "الجوانب النفسيّة للمصالحة في دول يوغوسلافيا السابقة". يقول إن المصالحة تعدّ أمراً مهمّاً للحفاظ على صحة الفرد العقلية، لافتاً إلى أن "المرارة المتبادلة بين الأعداء هي أشبه بسمّ في العقول. الرغبة في الانتقام وإلحاق الضرر بالآخر، حتى لو كان عدواً، يستنزفان طاقتنا ويمنعان التئام جروحنا النفسية".

على مستوى المجتمع، فإنّ الصراعات قد تتجدّد في حال لم تحدث المصالحة. لذلك، تمكّن المصالحة الأعداء من بناء علاقات سليمة، بحسب بيتروفيتش. ويلفت إلى أن الاستعداد للمصالحة يتعلّق بمشاعر الغضب حيال الدول الأخرى أو الخصم، والتي يمكن أن تشكّل عقبة كبيرة، وهذا منطقي ومتوقع. من جهة أخرى، فإن المشاعر الإيجابية مثل الأمل والتفاؤل والثقة في مستقبل أفضل، تعني أننا نسير على الطريق الصحيح لتحقيق المصالحات.



يضيف بيتروفيتش أنه في إطار الحرب الدوليّة التقليديّة، الآخر هو "عدو" يجب قتاله. وفي الحرب الأهلية، الآخر هو "خائن" يجب معاقبته. أما المستعمر، فيرى الآخر متخلّفاً أو بربرياً. وفي حالة الإبادة الجماعية، يصبح الآخر إنساناً ثانوياً. يضيف أنه بعد نهاية الأعمال العدائية، يكون الماضي مسيطراً على عقول الناس، بالمقارنة مع الحاضر الأقل أهمية ومع المستقبل. في هذا السياق، يفترض بعملية المصالحة أن تعكس هذا التوجه، وتدفع نحو التطلع إلى المستقبل وليس إلى الماضي. لذلك، "ليس السؤال عمّا حدث كافياً. بل قبل كل شيء، ماذا يسعنا أن نفعل مع هذا الماضي؟". وتشير دراسات إلى أن الهدف ليس التفكير في ما إذا كان يجب على الشخص التذكر أم النسيان، بل كيفية التذكّر والنسيان للمضي قدماً.

فعلنا أموراً سيئة

في جنوب أفريقيا، أنشأت أوّل حكومة ديمقراطيّة لجنة الحقيقة والمصالحة في عام 1991. يوضح رئيس الأساقفة ديزموند توتو، أن اللجنة التي ترأسها هي "غرفة لتضميد الجراح الوطنية والمصالحة والغفران". أما العضو السابق في المؤتمر الوطني الأفريقي ألبي ساش، والذي فقد ذراعه وعينه في تفجير، فيقول: "لا ينتهي الأمر بالتوفيق بين الجميع في البلاد. يحدث هذا فقط حين تتحقق مساواة حقيقية في العمل والسكن والصحة والتعليم، وهذا يأخذ وقتاً".

وكانت اللجنة قد أشارت إلى أنها استمعت إلى أكثر من سبعة آلاف من الجناة ونحو 20 ألف ضحية. ويقول ساش، الذي كان قاضياً في المحكمة الدستورية، ومهندس دستور البلاد ما بعد الفصل العنصري، إنه "كان لا بد أن تكون هناك اعترافات من قبل أولئك الذين ارتكبوا أفعالاً فظيعة، وذلك ليس فقط من قبل النظام الحاكم، ولكن أيضاً من قبل أعضاء في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي أنتمي إليه. نحن فعلنا أموراً سيئة. ويجب أن نكون واضحين حيال ذلك. بالنسبة إلي، كان الجزء الأهم الذي فعلته اللجنة أبعد من التقرير الذي أصدرته. وظهر ذلك من خلال الدموع والرثاء والقصص والاعترافات". وكما يقول أحد السياسيّين، فإن ما حقّقته اللجنة هو تحويل المعرفة إلى اعتراف".

وبالانتقال إلى مكان آخر، وثّقت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة جرائم حرب في البوسنة، إلا أن النتائج التي خلصت إليها لم تتحول إلى رواية مشتركة لدى جميع المواطنين. في النصف الصربي، يتوقف المنهاج الدراسي في عام 1992، ويشار إلى حرب غامضة وحدوث أمور سيئة.

أخيراً، صوّت صرب البوسنة، بغالبية ساحقة، لصالح الإبقاء على عطلة متنازع عليها، والتي قالت المحكمة الدستورية إنها تعد تمييزاً ضد غير الصرب. خيّر الاستفتاء الناخبين ما بين الإبقاء على عطلة 9 يناير/ كانون الثاني في (جمهورية صربسكا)، بمناسبة إعلان صرب البوسنة تشكيل دولتهم المستقلة عام 1992، أو إلغائها، ما أثار حرباً بين عامي 1992 و1995. قضت المحكمة بأن هذا التاريخ يعد تمييزا ضد البوشناق المسلمين والكروات الكاثوليك في البوسنة، لأنه يوافق عطلة دينية للمسيحيين الأرثوذكس.



ربّما لن نتوقف عن طرح السؤال عن أهمية المصالحة والاعتراف. في التاريخ، ما زال هناك كم كبير من الجرائم التي لم يعترف مرتكبوها بها، وما زال الضحايا يتألمون. لكن هل هي ممكنة حقاً؟ والأهم، هل تحقّق التعايش؟
تقول الكاتبة والصحافيّة الأميركيّة تينا روزنبرغ، لـ"العربي الجديد"، إن "المصالحات ممكنة، إلا أنّها تختلف من مكان إلى آخر"، لافتة إلى أنّه يجب على كل مجتمع الأخذ في الاعتبار جميع الظروف التي مرّ بها، والعمل على تصميم شكل مناسب للمصالحة، على غرار المحاكم الجنائية مثلاً". وترى أن طلب المجرمين السماح من الضحايا يجب أن يحدث بصورة شخصية، لافتة إلى أنه حتى في حال الاعتراف بما حدث، للضحايا وحدهم الحق في مسامحتهم أم لا.

من جهةٍ أُخرى، توضح روزنبرغ أن تخيير الضحايا بين العفو عن المجرمين أو الاستمرار في تعذيبهم لا يمكن أن يعتبر عفواً. هناك حاجة إلى لجنة حقيقة ومصالحة على غرار تلك التي أنشأت في جنوب أفريقيا، والتي كانت ناجحة لأنّها شجّعت المجرمين على الاعتراف بجرائمهم. لكنّها تشير إلى مشكلة أخرى تتعلق بالمحاكم الجنائية، والتي تساهم في محاكمة المجرمين، وهذه كلفتها المادية كبيرة. في الوقت نفسه، توضح أنها "ليست متأكدة من نجاح المحاكمات في جميع الحالات، إذ يمكن أن تؤدي إلى تأجيج مشاعر الغضب".

إلى ذلك، تؤكّد أنّ "المجرمين لن يعترفوا جميعاً بما ارتكبوه، وتوقُّع هذا يعدّ أمراً غير واقعي". مع ذلك، تلفت إلى أن الكثير من الضحايا يريدون ذلك. في إندونيسيا، لم يكن هناك اعتراف بما حدث. وبعض هؤلاء الذين يعتقد الضحايا أنهم مجرمون، يرفضون هذا الاتهام، بل يعتقدون أن ما فعلوه كان محقاً. إلا أن روزنبرغ ترى أنه طالما كان هناك جريمة قتل، فهذا يعني وجود مجرم وضحية، مشيرة إلى أنه "لا يمكن طاعة النظام إذا ما كان غير قانوني". تضيف أن هؤلاء الذي يعطون الأوامر هم مذنبون بنسبة أكبر من الذين يتلقونها.
وبعيداً عن المحاكمات، تشير إلى أهمية تشكيل لجان للتحقيق في ما حدث وكشفه. كذلك، يجب على الضحايا الحصول على تعويضات، لأن ذلك يساعدهم في الشفاء من الماضي والاستمرار.
وإلى بعض التجارب الناجحة، تتحدث عن غواتيمالا، وإنشاء لجنة الحقيقة التي أدت إلى اعترافات، بالإضافة جنوب أفريقيا والأرجنتين. تشير إلى أن نسيان الجرائم أمر مستحيل. من هنا، يحتاج كل مجتمع إلى لجنة حقيقة مختلفة، تتعلق بظروف الحرب، وإن كان المقاتلون جزءاً من الحكومة أو كانوا خارجها.