رفعت الحكومة المصرية سعر تذكرة مترو الأنفاق، فتعالت أصوات فئة، على الأرجح لا تتعامل مع المترو إلا فيما ندر، مؤيدةً للقرار، باعتباره جاء مصححاً لأوضاع خاطئة، وعلى أساس أن هذه الأسعار الجديدة سوف تحسن الخدمة، وتسمح لهذه الفئة باستخدام مترو الأنفاق في ذهابهم لأعمالهم مثلما يحدث في أوروبا والدول المتقدمة، وأنها سترحم شوارع القاهرة من استخدام السيارات المكثف الذي يضطر إليه هؤلاء القوم، لغياب أي وسيلة مواصلات تناسب مكانتهم، وتحميهم من "الروائح الكريهة والسلوكيات الهمجية" المنتشرة في المترو هذه الأيام.
ولم يفت هؤلاء أن يطرحوا فكرة المقارنة بأسعار تذاكر مترو الأنفاق "في أوروبا والدول المتقدمة"، كما ألمحوا إلى أن المعترضين الآن على زيادة بضعة جنيهات في ثمن تذكرة مترو يقطع بهم عشرات الأميال، يدفعون عشرة جنيهات عن يد وهم صاغرون أجرة لسائق التوك توك، رغم أنه لا يتحرك بهم إلا خطوات معدودة!
تذكرة المترو التي يطلب هؤلاء أن نقارن سعرها بمثيلتها في الدول الأخرى لا تمثل إلا ناحية واحدة من المعادلة، وهي ناحية الإنفاق. ولكي تستقيم الأمور وتصح المقارنة، لا بد أن نأخذ في الاعتبار الناحية الأخرى من المعادلة، وهي الأجور التي يحصل عليها المواطن المصري، وفي تلك تظهر الفجوة بوضوح.
فمن المؤكد أن المدرس المصري لا يحصل على الأجر الذي يحصل عليه المدرس الأميركي أو الأوروبي أو الخليجي أو الأردني، ولا المهندس أو الطبيب أو العامل أو الفلاح المصري يتحصل على ربع الأجر الذي يتحصل عليه نظيره في الدول الأخرى.
لكن حكوماتنا دأبت على مدار عشرات السنين على تذكيرنا بما تتحمله من دعم، مع إغفال الناحية الأخرى من المعادلة، حتى إذا جاء برنامج الاصلاح الاقتصادي، وقررت الحكومة بإيعاز من صندوق النقد، إلغاء الدعم وتحرير أسعار الوقود، والكهرباء، والماء، والدواء، والغذاء، تناست الحكومة أو تجاهلت ضرورة إلغاء الدعم عن الأجور أيضاً، وقررت أن تترك كل مواطن يتصرف على مسؤوليته الشخصية، بعد أن ارتفعت تكاليف المعيشة في مصر بأكثر من الضعف خلال العامين الأخيرين.
لم تبذل الحكومة الجهد لمساعدة المواطن على إيجاد حلول، وانطلقت في خطط زيادة الأسعار بلا رحمة، وكأن أجور المواطنين فيها من الفائض ما يسمح بالتعامل مع تلك الزيادات.
تجاهلت الحكومة حقائق واضحة تقول إن الحلول المتاحة أمام المواطنين لا تخرج عن الفساد أو الانحراف، فتركتهم يموج بعضهم في بعض، وطوت صفحة المترو، لتنظر في أي بندٍ بعد ذلك تكون الزيادة القادمة، متناسيةً انخفاض القوة الشرائية الذي حدث للحد الأدنى للأجر، خاصة بعد التعويم وفقدان الجنيه المصري لأكثر من 60% من قيمته.
وفي الناحية الأخرة من الكوكب، انشغل العالم باحتمالات أن تؤدي التطورات التكنولوجية الأخيرة، خاصة ما يتعلق منها بالذكاء الاصطناعي والروبوتات، إلى فقدان الكثير من العمال لوظائفهم خلال العشرين سنة القادمة، فبدأوا (من الآن) يدرسون تطبيق ما أطلقوا عليه دخل أساسي عالمي Universal Basic Income.
وكان أول من ناقشه بجدية واحد ممن يطلق عليهم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، وهو توماس باين، الذي تحدث قبل أكثر من مائتي عام عن منح كل مواطن مبلغاً نقديا كل عام، من أجل ضمان قدرته على تلبية الاحتياجات الأساسية.
لكن مؤخراً، ومع توهج ثورة الروبوتات، عاد التفكير في الدخل الأساسي مرة أخرى. وعلى الرغم من وجود توقعات بظهور وظائف جديدة تستوعب من يفقدون أعمالهم، كما حدث في حالات التطورات الصناعية والتكنولوجية السابقة، إلا أن مثل هذه الأمور لا تترك عندهم للصدف، وبناء عليه فقد انخرطت العديد من الدول في تجربة إعطاء مبلغ مالي لبعض المواطنين، الذين يتم اختيارهم عشوائياً من ذوي الدخول المحدودة، أو من منعدمي الدخول، ودون أي شروط، حيث أنه في بعض البلدان التي بدأت تلك التجارب، يستمر المواطنون في الحصول على هذا الدخل، حتى بعد حصولهم على عمل.
أهم النتائج التي خلصت إليها الحكومات بعد بدء هذه التجارب كانت أن عدداً قليلاً جداً ممن حصلوا عليها قللوا ساعات عملهم. لكن أغلبهم استخدمها في تحسين مستوى معيشتهم، أو تحسين الطريقة التي يعيشون بها، فمنهم من اشترى بعض السلع التي تاجر فيها، ومنهم من اشترى أداة استثمارية، كسيارة يعمل عليها، أو أدوات صيد حديثة، أدت إلى مضاعفة الزيادة في دخله.
اقــرأ أيضاً
كما أشارت التجارب إلى أن الكثيرين استطاعوا من خلال هذه المبالغ التركيز في مشاريعهم الصغيرة، ومنهم من تسبب في زيادة ابتكاره ونجاح مشروعه، ونقله إلى فئة اقتصادية أعلى، بعد أن اطمئن إلى توفر دخل أساسي، يستعين به على ضروريات الحياة اليومية، ويلاحظ أن عدم وجود وظيفة لم يكن شرطاً للحصول على هذا الدخل في تلك التجارب.
الفكرة نفسها طرحها مارك زوكيربرغ، مؤسس ورئيس فيسبوك في حديثه أمام طلبة العام الأخير بجامعة هارفارد العام الماضي 2017، باعتبارها دافعة للابتكار وريادة العمال، بالاضافة إلى كونها خط دفاع أمام تسريح العمالة المتوقع مع الاتجاه إلى الميكنة.
ولو علم زوكيربرغ أن هناك في بلدٍ ما من تخرج من الجامعة وحصل على وظيفة أجرها لا يتجاوز 1200 جنيه ( 65 دولاراً شهرياً)، لكان هؤلاء هم أول المستحقين للتجربة، بشرط إقناع زوكيربرغ أن هذا الرقم صحيح، وليس من وحي الخيال، وهي بالتأكيد مهمة ليست باليسيرة.
ولم يفت هؤلاء أن يطرحوا فكرة المقارنة بأسعار تذاكر مترو الأنفاق "في أوروبا والدول المتقدمة"، كما ألمحوا إلى أن المعترضين الآن على زيادة بضعة جنيهات في ثمن تذكرة مترو يقطع بهم عشرات الأميال، يدفعون عشرة جنيهات عن يد وهم صاغرون أجرة لسائق التوك توك، رغم أنه لا يتحرك بهم إلا خطوات معدودة!
تذكرة المترو التي يطلب هؤلاء أن نقارن سعرها بمثيلتها في الدول الأخرى لا تمثل إلا ناحية واحدة من المعادلة، وهي ناحية الإنفاق. ولكي تستقيم الأمور وتصح المقارنة، لا بد أن نأخذ في الاعتبار الناحية الأخرى من المعادلة، وهي الأجور التي يحصل عليها المواطن المصري، وفي تلك تظهر الفجوة بوضوح.
فمن المؤكد أن المدرس المصري لا يحصل على الأجر الذي يحصل عليه المدرس الأميركي أو الأوروبي أو الخليجي أو الأردني، ولا المهندس أو الطبيب أو العامل أو الفلاح المصري يتحصل على ربع الأجر الذي يتحصل عليه نظيره في الدول الأخرى.
لكن حكوماتنا دأبت على مدار عشرات السنين على تذكيرنا بما تتحمله من دعم، مع إغفال الناحية الأخرى من المعادلة، حتى إذا جاء برنامج الاصلاح الاقتصادي، وقررت الحكومة بإيعاز من صندوق النقد، إلغاء الدعم وتحرير أسعار الوقود، والكهرباء، والماء، والدواء، والغذاء، تناست الحكومة أو تجاهلت ضرورة إلغاء الدعم عن الأجور أيضاً، وقررت أن تترك كل مواطن يتصرف على مسؤوليته الشخصية، بعد أن ارتفعت تكاليف المعيشة في مصر بأكثر من الضعف خلال العامين الأخيرين.
لم تبذل الحكومة الجهد لمساعدة المواطن على إيجاد حلول، وانطلقت في خطط زيادة الأسعار بلا رحمة، وكأن أجور المواطنين فيها من الفائض ما يسمح بالتعامل مع تلك الزيادات.
تجاهلت الحكومة حقائق واضحة تقول إن الحلول المتاحة أمام المواطنين لا تخرج عن الفساد أو الانحراف، فتركتهم يموج بعضهم في بعض، وطوت صفحة المترو، لتنظر في أي بندٍ بعد ذلك تكون الزيادة القادمة، متناسيةً انخفاض القوة الشرائية الذي حدث للحد الأدنى للأجر، خاصة بعد التعويم وفقدان الجنيه المصري لأكثر من 60% من قيمته.
وفي الناحية الأخرة من الكوكب، انشغل العالم باحتمالات أن تؤدي التطورات التكنولوجية الأخيرة، خاصة ما يتعلق منها بالذكاء الاصطناعي والروبوتات، إلى فقدان الكثير من العمال لوظائفهم خلال العشرين سنة القادمة، فبدأوا (من الآن) يدرسون تطبيق ما أطلقوا عليه دخل أساسي عالمي Universal Basic Income.
وكان أول من ناقشه بجدية واحد ممن يطلق عليهم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، وهو توماس باين، الذي تحدث قبل أكثر من مائتي عام عن منح كل مواطن مبلغاً نقديا كل عام، من أجل ضمان قدرته على تلبية الاحتياجات الأساسية.
لكن مؤخراً، ومع توهج ثورة الروبوتات، عاد التفكير في الدخل الأساسي مرة أخرى. وعلى الرغم من وجود توقعات بظهور وظائف جديدة تستوعب من يفقدون أعمالهم، كما حدث في حالات التطورات الصناعية والتكنولوجية السابقة، إلا أن مثل هذه الأمور لا تترك عندهم للصدف، وبناء عليه فقد انخرطت العديد من الدول في تجربة إعطاء مبلغ مالي لبعض المواطنين، الذين يتم اختيارهم عشوائياً من ذوي الدخول المحدودة، أو من منعدمي الدخول، ودون أي شروط، حيث أنه في بعض البلدان التي بدأت تلك التجارب، يستمر المواطنون في الحصول على هذا الدخل، حتى بعد حصولهم على عمل.
أهم النتائج التي خلصت إليها الحكومات بعد بدء هذه التجارب كانت أن عدداً قليلاً جداً ممن حصلوا عليها قللوا ساعات عملهم. لكن أغلبهم استخدمها في تحسين مستوى معيشتهم، أو تحسين الطريقة التي يعيشون بها، فمنهم من اشترى بعض السلع التي تاجر فيها، ومنهم من اشترى أداة استثمارية، كسيارة يعمل عليها، أو أدوات صيد حديثة، أدت إلى مضاعفة الزيادة في دخله.
كما تبين ارتفاع ما أنفقه هؤلاء على التعليم، مع تحسن الأداء الدراسي لمن كان يدرس منهم. وبالطبع كانت النتائج أكثر ايجابية لمن هم أكثر فقراً، حيث قلت معدلات التفلت من التعليم، وانخفضت معدلات الجريمة في المدن التي أجريت فيها هذه التجارب.
كما أشارت التجارب إلى أن الكثيرين استطاعوا من خلال هذه المبالغ التركيز في مشاريعهم الصغيرة، ومنهم من تسبب في زيادة ابتكاره ونجاح مشروعه، ونقله إلى فئة اقتصادية أعلى، بعد أن اطمئن إلى توفر دخل أساسي، يستعين به على ضروريات الحياة اليومية، ويلاحظ أن عدم وجود وظيفة لم يكن شرطاً للحصول على هذا الدخل في تلك التجارب.
الفكرة نفسها طرحها مارك زوكيربرغ، مؤسس ورئيس فيسبوك في حديثه أمام طلبة العام الأخير بجامعة هارفارد العام الماضي 2017، باعتبارها دافعة للابتكار وريادة العمال، بالاضافة إلى كونها خط دفاع أمام تسريح العمالة المتوقع مع الاتجاه إلى الميكنة.
ولو علم زوكيربرغ أن هناك في بلدٍ ما من تخرج من الجامعة وحصل على وظيفة أجرها لا يتجاوز 1200 جنيه ( 65 دولاراً شهرياً)، لكان هؤلاء هم أول المستحقين للتجربة، بشرط إقناع زوكيربرغ أن هذا الرقم صحيح، وليس من وحي الخيال، وهي بالتأكيد مهمة ليست باليسيرة.