متحف سرسق.. ذاكرة سكان بيروت

22 ديسمبر 2015
الواجهة الأمامية لمتحف سرسق في بيروت (عبدالرحمن عرابي)
+ الخط -

تقودك العقارات المملوكة لآل سرسق من الشارع الرئيسي في منطقة الجميزة صعوداً إلى الأشرفية شرقي العاصمة اللبنانية بيروت. تضيق الشوارع صعوداً ويتقلص عدد الأبنية الحديثة لصالح القصور القديمة والأشجار المُعمرة.
يُخطئ زوار المنطقة، عادة، في السؤال بين قصر سرسق والمتحف، فيوضح أحد العمال في المنطقة الفرق: "آل سرسق يملكون نصف المنطقة! يقع المتحف الشهير على يمينك، وعلى بعد عشرات الأمتار منه يقع قصر المناسبات على الجانب الأيسر. فاختر وجهتك!".
تتوسط مطرانية الروم الأرثوذكس العقارين، فتزيد من الانطباع التاريخي للشارع. ومن خلف بوابة حديدية لا توحي بالانعزال يُطل القصر الأبيض الجميل. يكسر الزجاج الملون الذي يزين واجهات الطبقتين الأولى والثانية من رتابة الطلاء الأبيض للقصر الذي حولته وصية المالك، نقولا سرسق، إلى متحف للفنون.
تشد ألوان الزجاج العريض الزائر فلا يلاحظ المنحوتات الثلاث الموزعة في باحة المتحف إلا بعد تجاوزها. إحداها لسيدتين مُتقابلتين تُمثلان كليشه التعايش الاسلامي ــ المسيحي في لبنان؛ تحمل الأولى صليباً على رقبتها وتحمل الثانية نقشاً لآية قرآنية. جسدت السيدات معاً تمثال الشهداء حتى خمسينيات القرن الماضي عندما استبدلته بلدية بيروت بالتمثال الحالي الذي نحته فنان إيطالي.

ورشة حافظت على العتيق
خضع المتحف إلى ورشة توسعة وتأهيل بين عامي 2008 و2015، بعد سنوات طويلة من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975ــ1990) وإعادة افتتاح أبوابه. كما انضم إليه طاقم عمل جديد من حوالي عشرين شخصاً بين مُشرفين وتقنيين. تشير مديرة المتحف، زينة عريضة، في حديث لـ"العربي الجديد" إلى "سعي فريق العمل الجديد للاستفادة القصوى من الإمكانات المكانية والتكنولوجية المُستحدثة في المعرض بعد الورشة". فزاد حجم المتحف خمسة أضعاف مساحته السابقة مع استحداث أربعة طوابق تحت الأرض انضمت إلى طوابقه الأرضي والأول والثاني. تستخدم الطوابق المستحدثة كمواقف سيارات ومساحة مُخصصة لتخزين الأعمال الفنية مُجهزة بالتقنيات اللازمة لضبط العوامل التي تضر بالأعمال كنسبة الرطوبة والإضاءة والحرارة. ومحترف للترميم يحتوي التجهيزات المطلوبة لمكافحة الغبار ومواد التنظيف الخاصة. إضافة إلى متجر ومطعم صغير في بناء زجاجي تمت إضافتهما خلال التوسعة.

مساحات العرض
أما مساحات العرض المتنوعة فتتوزع بين أربعة طوابق (السفلي الثاني، الأرضي، الأول، والثاني)، وتحتل المكتبة والمسرح الطابق السفلي الأول.
يضم الطابق الأرضي "الصالتان المتلازمتان" وهما فسحتان تتوزعان على يمين ويسار المدخل الذي يتوسطه مكتب الاستقبال، مخصصتان "لعرض أعمال الفنانين المُبتدئين"، بحسب عريضة. وهي خطوة تخدم الهدف العام للمتحف في "بناء جمهور جديد من مُختلف الفئات العُمرية والاجتماعية ووضع المتحف ضمن خيارات سكان بيروت لزيارته وحتى تقديم العروض فيه في قالب بعيد عن تقليدية المتاحف".
في الطابق الثاني تحت الأرض تقع صالة المعارض الكبرى التي تتميز بسقف مزدوج الارتفاع لاستقبال الأعمال التي يزيد ارتفاعها على مترين.
وفي الطابقين الأول والثاني يقدم المعرض مجموعته الدائمة من صور فوتوغرافية وبطاقات بريدية ولوحات ومنحوتات ومقتنيات نقولا سرسق الشخصية، إلى جانب معرض الفن الحديث.

متحف بيروتي للفن الحديث
يُمكن تقسيم المعروضات العديدة في المتحف إلى قسمين اثنين: يحمل الأول عنوان "بيروت"، التي وصفها المصور الفرنسي ماكسيم دو كامب في سطور قليلة: "أما بيروت فلا مثيل لها.. هنا يعتكف التأمليون والخائبون والمتأملون في الحياة.. يبدو لي أن المرء يستطيع العيش سعيداً هنا مكتفياً بالتفرج على الجبال والبحر".
يقودك معرض عن المساحات العامة في بيروت "الحديثة" في الطابق الأرضي إلى بيروت "أقدم" في الطابق السفلي الثاني. هناك يتابع الزائر تطور مدينة بيروت التي تحولت من إحدى المدن الساحلية الكثيرة على البحر المتوسط إلى عاصمة لبنان الكبير. يتميز هذا القسم بتقديم تطور بيروت بعيون المُستشرقين الفرنسيين الذين تحولوا إلى سلطة انتداب مع انهيار الخلافة العثمانية. رصدت عدسات هؤلاء وريشهم الفنية بناء مرفأ بيروت وتوسعته، ثم زيارة الإمبراطور الألماني غيليوم الثاني وأسطوله المهيب عام 1850. ثم امتداد الطرقات من المرفأ إلى القلاع القديمة وتفرعها في المناطق الساحلية كـ: الكرنتينا، المدور، الزيتونة، ومينا الحصن، نحو داخل المدينة، ثم المدافن وحرج بيروت، وصولاً إلى الضواحي. وهي المناطق التي وصلتها خانات توزعت حول بيروت في الحازمية وفرن الشباك وبئر حسن والبرجاوي وشاتيلا. ولم تغب صور ولوحات حمامات المدينة التي تُذكر بالطابع العثماني، ولا مدارس الإرساليات الغربية التي افتتحت فروعها في بيروت.

لوحات تجريدية
وفي القسم الثاني تقدم بيروت نفسها بصفتها مدينة للفن المعاصر، فـ "المدن كالأحلام تصنعها الرغبات والمخاوف، وإن كان خيط سريرتها سرياً، تبقى قواعدها عبثية.."، كما قال الشاعر الإيطالي.
وليس أدل على عبثية بيروت من لوحات الفن الحديث التي تُعرض في الطابق الثاني. والتي تمتد فترات رسمها طوال خمسة عقود واكب فيها المتحف ولادة النمط التجريدي في الرسم.
هناك تستوقفك إحدى لوحات الفنانة اللبنانية إيتيل عدنان، لجبل تبدأ قاعدته بألوان زاهية على خلفية فاقعة قبل أن تصل إلى القمة البعيدة من ألوان أغمق. وهي من اللوحات القليلة التي رسمتها الكاتبة والفنانة بحجم كبير وخصت بها المتحف.
وهنا تشير المديرة إلى أن "عدد المعروضات ليس مهماً بقدر نوعيتها وفرادتها". وهي مجموعة راكمها المتحف من خلال شراء بعضها وقبول بعضها الآخر على سبيل الهبة من فنانين ومؤسسات ثقافية. ليُشكل المتحف ومجموعته ميزان حرارة "بارومتر" لحركة الفن اللبنانية منذ افتتاحه عام 1961 وحتى يومنا الحالي.

مكتب سرسق
حافظ الطابق الأول على الطابع التقليدي للبناء كقصر استضاف فيه نقولا سرسق العائلة والأصدقاء، وكمتحف لتاريخ المدينة. فأعاد القيمون على المتحف ترتيب مكتب نقولا بعد العثور على قطع أثاث مُتفرقة في القصر، نظموها بشكل أنيق أمام لوحة "بورتريه" كبيرة لسرسق يحمل سيجاره المُشتعل.
وإلى جانب المكتب تُعرض مجموعة مُختارة من أرشيف فؤاد دباس الذي جمع أكثر من 30 ألف صورة وطابع بريدي عن بيروت وناسها بين أعوام 1900 و2000.
وتتميز الصور بتمكن دباس من جمع أرشيف أهم داري تصوير في أوائل القرن الماضي، واللذين يعودان لآل الصابونجي و"ميزون بونفيس". وتشكل الملاحظات المكتوبة بخط اليد على الصور والبطاقات البريدية من الخلف مفاجأة سارة للزوار الذين يمكنهم لمس عدد من الموجودات المحمية بإطارات بلاستيكية شفافة وسميكة.
وفي وقت أخفى فيه تزاحم الأحداث بعض الروابط الاجتماعية والثقافية بين بيروت وسكانها تُعيد صور دباس التذكير بزيارات الفلسطينيين والمصريين إلى بيروت أوائل القرن الماضي، وبالوجود اليهودي في العاصمة اللبنانية.

"هذه آثارنا تدل علينا"
في الطابق الأول أيضاً يدخل الزائر إلى "القاعة العربية"، وهي الديوانية أو المضافة التي استقبل فيها نقولا سرسق الأصدقاء، وكانت مواجهة لمدخل القصر الرئيسي في الطابق الأول. يتوزع فيها 11 مقعداً عربياً عريضاً من الخشب الدمشقي بشكل هلال حول بركة ماء صغيرة، نُقش أسفل كل منها بيت شعر أو حكمة. وقد طلب أحد مُفتي لبنان في مراحل سابقة استبدال آية قرآنية كانت تزين المقعد الأوسط في الهلال "بسبب حرمة الجلوس على نقش الآية"، فاستبدلت البلاطة القديمة بأخرى جديدة (في حينه) تحمل عبارة: "هذه آثارنا تدل علينا". كما تُزين أبيات الشعر الجزء الأعلى من جدران المضافة، والتي تصعُب قراءتها بسبب بهتان لونها وضعف الإضاءة في الغرفة.

المخزن غني أيضاً


المجموعة المعروضة تشكل جزءاً من ذاكرة المتحف الغنية. فتشير عريضة إلى احتواء المخازن الحديثة للمتحف على "مجموعة للفن الإسلامي وأخرى لفنانين يابانيين تسلمها المتحف كهبة بعد تنظيم عرض بالتعاون مع السفارة اليابانية". وهي مجموعات ستجد طريقها للعرض لاحقاً ضمن حلقات العرض الفصلية (كل ثلاثة أشهر) التي تنظمها إدارة المتحف للأعمال الموجودة فيه، وتلك التي يأتي بها الفنانون من الخارج. كما بات تاريخ المعارض التي نظمها المتحف تحت عنوان "معرض الخريف" المستوحى من معارض باريس، يُشكل جزءاً من محتويات المتحف مع ما قدمه من طوابع وملصقات ولوحات منذ 1961 وحتى 2012.
يحتوي المتحف حالياً على نحو 700 قطعة فنية بين لوحة زيتية ورسمة ومنحوتة، وصور فوتوغرافية وطوابع. كما تضم مكتبة المتحف عدداً غير مُحدد من الكُتب، بانتظار تعيين مسؤول لأرشفة هذه المكتبة قبل افتتاحها أمام العامة. ويأمل القيمون عليه أن يتم توسيع مداخيل الميزانية بشكل شفاف ما يسمح باقتناء المزيد من القطع الفنية.
وقف نقولا سرسق قصره لبلدية بيروت، وتوالى رؤساء البلدية في لعب صفة "القيم على المتحف". وقد تم استخدامه في مراحل سابقة لاستقبال الملوك والرؤساء الذين زاروا لبنان. وتشرف عليه لجنة تنفيذية يترأسها حالياً وزير الثقافة السابق، والمبعوث الأممي، طارق متري. تتولى هذه اللجنة إدارة المتحف وتنظيم مداخيله التي تتنوع بين حصة من ضرائب بلدية بيروت والهبات الدولية التي تُمنح له. 

حراك على مدار العام
 يتوقع زائر المتحف أن تُعرّفه مُتدربة فرنسية على تاريخ بلاده، لكن إحدى الوظائف الثانوية للمتحف هي "تدريب شبان لبنانيين وأجانب على عمل المتاحف"، كما تشير عريضة. فتحاول إحدى المتدربات الفرنسيات تخفيف وقع كلمة "انتداب" على مسامع الزوار اللبنانيين، لكن طغيان المواد التي رسمها وصورها فرنسيون عن بيروت أوائل القرن الماضي تؤكد فرنكوفونية المدينة. وهي صفة تؤكد عريضة العمل على تقنينها "ليكون المتحف لكل سكان بيروت، وليس للفرنكوفونيين منهم فقط". وهو ما نجح المتحف في تحقيقه خلال الأشهر الأولى للافتتاح (افتتح المتحف رسميا في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) مع تسجيل 15 ألف زائر خلال ثلاثة أشهر، يُضاف إليهم حضور أربعة آلاف شخص يوم الافتتاح. وهي أرقام تعكس أيضاً سير العاصمة اللبنانية بعكس مسار التراجع الثقافي الذي يصيب دول المنطقة. ففي نفس الوقت الذي تتعرض فيها متاحف سورية والعراق للطمس والتدمير تجد الأعمال الفنية اللبنانية، بقيمتها المتواضعة، مساحة جديدة للعرض في بيروت.

إقرأ أيضا: متحف سرسق البيروتي يعود إلى الحياة من جديد
المساهمون