عودوا إلى مقاعدكم، استدارت الأيام، إسلاميون ونشطاء في السجون، ومبارك يستجمّ، والبيروقراطية العسكرية في الحكم والإدارة، وترجّل الحلم. ختام على إيقاع الصمت الثوري، فلم تكن القضية هي القضية. في يوم 25 يناير، حيث أرصفة بشرية تتدفق من أطراف المدينة إلى متن التحرير، كان المجتمع يلقي بأثقاله، وأشواق مدنية، رقص وغناء، صلاة ونحت، ومسلم ومسيحي إيد واحدة.. هكذا كانت التفاعلات الحيوية أكبر من أن تسكن. فانكسر التوازن الهش لصالح تمرّد الشعب، الذي دفع بعشرات من الائتلافات وآلاف من الشباب والقوى السياسية، لكي يتمردوا على أطر الدولة القابضة. اندفع المجتمع المثقل بالخيال، فاستباح الدولة المُترعة بالفساد يوم 28 يناير.
أما في الثلاثين من يونيو، فقد كانت ثورة مؤسسات نهضت، قضاء وجيشا وشرطة وأزهرا وكنيسة، وكل من راهن على عودة الدولة. وكان يوم الثالث من يوليو هو المتمم لثورة من أجل استباحة المجتمع.. ما بين ثورة استباحت الدولة وأخرى استباحت المجتمع، كانت ثورة.. وثورة مضادة. يبدو أنه لا مفر من القول إن موقف الربيع العربي من الدولة القومية العربية، كان طبيعيا، فهي دولة لا تمثل مجتمعها، لا في خياراته، ولا في انحيازاته أو مجسداته القيمية، تسالم من يعاديه، وتحارب من يفتديه، سياستها مستترة أسفل المنضدة، تحركاتها في خدمة غارسيها هناك على الضفة الأخرى من المحيط والعالم. وهي لن تكون بتلك الكيفية إلا إذا عملت وفق شروط استبدادية قاسية، وجماعات من المصالح والروابط الفاسدة الذين يمكن عبرهم تمرير كل العمليات الزبائنية الدولية، والتبعية الاقتصادية والسياسية.
كان المجال السياسي المباركي مغلقا طيلة ثلاثة عقود، فاتجهت خيارات العديد من القوى السياسية والمدنية والدينية، لا سيما الشبايبة منها، إلى العمل كقوى ترى في المجتمع مجالها الحيوي. أطرها رصيف.. وتنظيمها مقهى أو مسجد أو منتدى.. ولهذا كانت الحركات الدينية هي الأكثر نفاذا، واستفادة من ثورات الربيع العربي، بوصفها حركات اجتماعية، تليها في ذلك الحركات اليسارية والنقابية والعمالية والقطاعات الطلابية. وهؤلاء كلهم مثلت لهم الثورات الربيعية صيغة إنعاش وانتشار. وهذا يفسر لنا تلكؤ القوى الحزبية والنخبوية والاقتصادية والمؤسسات الدينية المرتبطة بالدولة ومساراتها والمستفيدين منها، من الالتحام بقطار الثورة، ثم سرعة النزول منه بعد ذلك. وعندما نتحدث عن ثورة المؤسسات أو الثورة المضادة، يبقى مهماً فهم موقف الجيش، عمق الدولة القومية من ثورة يناير. وهذا لا يمكن قراءته إلا وفق التصورات المصرية المعتادة التي ترى أن الجيش هو منشئ الدولة الحديثة، وأنه عمق الدولة القديمة الفرعونية. حيث ينظر المصريون إلى الجيش بوصفه سابقا على الدولة المصرية وعلتها وقوامها. وهذا أمر ترامت بوادره مبكرا في معركة المبادئ فوق الدستورية وخصوصية الميزانية.
ثم تأكد في حقبة الرئيس محمد مرسي دور الجيش الذي سوّق له، باعتباره حارسا للهوية المصرية القومية، إذ تجادل عن نفسها مع الهويات الدينية، بجانب مراعاة الوظائف الدفاعية والأمنية التقليدية. وبالتالي كان هو اللاعب الرئيسي قبالة ربيع يناير، والذي ناور من أجل إعادة تماسك الدولة والتمكن من زمام المبادرة لتطويق العنفوان الشبابي. في ثورة يناير كانت الدولة المصرية في أسوأ حالاتها أمام اكتساح ثورة المجتمع لها، ولم يكن أمام مؤسساتها الأمنية إلا أن تحاول أن تشتري الوقت، حتى يمكن أن تعيد حساباتها. في نفس اللحظة كانت القوى الثورية تشعر بالخشية الشديدة بعد ضراوة عملية الاكتساح لمؤسسات الدولة، وما ترتب على ذلك من قلق الفراغ وخشية السقوط في العبثية.
بعد شبه انهيار للدولة المصرية، بدأت تتفاعل سريعا اتجاهات الثورة والإصلاح داخل الثورة الشبابية، وعند لحظة الإصلاح التي رفعت شعار الحفاظ على ما تبقى من الدولة، والتي تغلبت بفعل القوى الإسلامية وتأكدت، كانت لحظة تنفس الصعداء لأجهزة الدولة لتشرع في المبادرة. ومع ظهور الوجه المتمرد لإيقاع البؤس العربي المتمثل في الحركات ذات المنزع التوحشي الديني الداعشي، كانت الأرضية جاهزة لدخول مرحلة الثورات الاجتماعية الشبابية إلى حظائر التخوين والحرب على الإرهاب.
وبدأت تتشكل ائتلافات الثورات المضادة العربية التي تتخذ من الحركات الزبائنية المستأجرة والأبواق الإعلامية والتخويف من انهيار الدولة أدوات لمقاومة الربيع العربي. وكانت أكثر المواطن حساسية في تفاعل الربيع العربي وخريفه المضاد، لحظة أن أسقطت إيران شعاراتها الثورية الكلاسيكية ومجابهة قوى المستكبرين ونصرة المستضعفين، فتقدموا لمعاونة مستكبري سورية والعراق واليمن، ضد مستضعفيها، فتم الدفع بقوى شيعية مسلحة كحزب الله والحوثيين، وأخرى في العراق، لمواجهة الحركات الثائرة منها أو العنيفة. تبدو خريطة الثورة العربية الاجتماعية والثورة الدولتية العربية المضادة، هي المعركة الكبرى المقبلة.. فالمجتمعات لا تزول.. لكن الدول لن يمكنها الصمود.
*مصر