على الرغم من مرور أكثر من 15 سنة على إطلاق المبادرة العربية للسلام، إلا أن بنودها لم تر النور ولم يتحقق شيء من مقترحاتها، وما زالت الأنظمة العربية متمسكة بالمبادرة وتسوق لها في المحافل الدولية، وخصوصًا عند كل تغير يحدث في رأس هرم الإدارة الأميركية، وقد أصبحت المبادرة واحدة من أهم مبادرات السلام الأساسية في الشرق الأوسط.
مبادرة السلام العربية تقدم بها العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر قمة بيروت عام 2002 عندما كان وليًا للعهد، وتهدف إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، مع إمكانية تبادل الأراضي المتفق عليها بين الجانبين، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، مع حل عادل ومتفق عليه تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، وفقًا لقرار الأمم المتحدة رقم 194، وفي المقابل تقوم الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، وقد نالت المبادرة موافقة الجامعة العربية عام 2002 وتم التأكيد عليها في قمة الجزائر في عام 2007.
الرغبة العربية في السلام والاستعداد للاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها لم تدغدغ عاطفة تل أبيب ولم تحركها قيد أنملة في اتجاه السلام المنشود عربيًا، فموقف إسرائيل من المبادرة لم يتغير ومنذ اللحظة الأولى عن الرفض القاطع في التعامل معها أو التعاطي مع ما جاء فيها على الرغم من أنها شكلت تنازلات كبرى وغير مسبوقة وخطيرة على مستوى الثوابت والحقوق الفلسطينية، وقدمت لإسرائيل ما كانت بحاجة إليه من تطبيع وعلاقات دبلوماسية مع العرب.
راهنت إسرائيل على ما يبدو على الزمن، في حدوث تراجع وترد أكثر في الموقف العربي وانتقاله تدريجيًا من مربع العداء مع إسرائيل إلى مربع التطبيع معها دون أن تكون مجبرة على دفع أي ثمن لقاء ذلك أو تقديم أي تنازلات، خصوصًا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. مبادرة السلام العربية مثلث في حد ذاتها انعطافًا حادًا في موقف الدول العربية قياسًا بقرارات مؤتمر قمة الخرطوم الذي انعقد في عام 1967 والمعروف بلاءاته الثلاث: لا للسلام، لا للتفاوض ولا للاعتراف بإسرائيل.
تسعى السياسة الإسرائيلية إلى عدم الربط بين السلام مع الدول العربية وبين الحقوق الفلسطينية ومنع استخدام العرب للقضية الفلسطينية كورقة تساوم وتضغط بها على إسرائيل، وتعمل على اختراق الصف العربي والاستفراد بكل دولة وجرها إلى التطبيع في ظروف مختلفة، وقد حدث ذلك بالفعل عندما وقعت معاهدات سلام مع مصر والأردن قبل أن تتم تسوية القضية الفلسطينية، وترغب إسرائيل في الوصول إلى التطبيع مقابل التطبيع، والسلام مقابل السلام، وبذلك تعمل مدعومة بالإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب التي تتفاخر وبشكل علني بانحيازها لإسرائيل، على فرض سياساتها وحلولها في ما يتعلق بالشرق الأوسط، وتطالب العرب بتقديم المزيد من التنازلات والرضوخ أكثر لمطالبها للوصول إلى تحالف عربي إسرائيلي يواجه العدو المشترك المتمثل، على حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في إيران وفي الجماعات الإرهابية المتطرفة وليس للوصول إلى حل القضية الفلسطينية، بل وتحت غطاء أوسلو سرعت إسرائيل من وتيرة الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وكرست الاحتلال والتهويد وعمدت إلى خلق وقائع جديدة على الأرض يصبح من المستحيل في ظل وجودها تنفيذ مبادرة السلام العربية، إلا أن المبادرة بقيت حاضرة على ألسنة الدبلوماسية العربية وتجوب الأروقة السياسية العالمية رغم أنها سقطت بفعل التعنت الإسرائيلي والتجاهل الأميركي المتعمد.
منذ عام 2002 وحتى الوقت الحالي عصفت بالمنطقة العربية الكثير من الأحداث والمتغيرات، واستدرجت إلى الساحة العربية العديد من القوى الإقليمية والعالمية. من ذلك حدوث الانقسام الفلسطيني والحروب الإسرائيلية على غزة وثورات الربيع العربي وانتكاساتها من خلال الثورات المضادة، التي أفضت إلى تفكك عدد من الدول العربية وتغيير بعض أنظمة دول عربية أخرى ودخول سورية في اقتتال داخلي، عدا عن المخاطر التي شكلتها جماعات الفكر المتشدد، مثل داعش وغيره، تلك الأحداث والتغيرات الكبيرة والمفصلية غيرت من الخارطة السياسية العربية ومن آليات تعامل المجتمع الدولي مع الشرق الأوسط ومشكلاته، وقللت بالتالي من حصة القضية الفلسطينية من اهتمام المجتمع الدولي، وأيضا ظهور فزاعة إيران وتضخيم خطرها القادم نحو الشرق الأوسط قلل من الاهتمام العربي في القضية الفلسطينية وبما يتعلق بها من مبادرات بما فيها المبادرة العربية، وبالتالي أصبحت المبادرة متأخرة قياسًا بما جاء بعدها من أحداث وصارت مادة للتداول الإعلامي من ناحية، ومنفذا للأنظمة العربية نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بحجة مجابهة الخطر الإيراني من ناحية أخرى، أكثر من كونها مبادرة متفق عليها عربيًا لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما أفقدها دورها الأساسي الذي طرحت من أجله.
السعودية، وهي التي جاءت بالمبادرة تحت مبررات عدة، منها محاولتها تحسين صورتها أمام أميركا والغرب وتبرئة نفسها من تهمة الإرهاب بعدما تبين أن 15 شخصًا من أصل 19 من منفذي هجمات 11 سبتمبر/ أيلول من السعوديين، بات من الواضح أنها أول الدول التي تجاوزت نص المبادرة والتفّت على حيثياتها وبنودها، ومضت الرياض في التطبيع مع إسرائيل حتى دون موافقتها على المبادرة، وفتحت قنوات تواصل سرية مع إسرائيل. ويمكن الاستدلال من خلال تصرفات وتصريحات القيادة السعودية الجديدة ومقربين منها على أنها جاهزة لدفع أي ثمن مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى لو كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية وبالقفز عن المبادرة التي هي بالأساس وليدة السياسة السعودية.
المتغير الجوهري هنا والذي عمل على إفراغ المبادرة من محتواها هو خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تسعى إلى دفع عملية السلام العربية، بحيث يتم أولًا تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية وفي وقت لاحق وبناء على التقدم في مبادرة السلام العربية، يعمل الجانب الأميركي على دفع المفاوضات المباشرة والمكثفة بين إسرائيل والفلسطينيين، وفقا لجدول زمني يجري تحديده مسبقاً.
وقد استدعى ذلك قلق واستهجان القيادة الفلسطينية ودفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس للمطالبة بتطبيق المبادرة العربية بالتتابع المنصوص عليه والذي يأتي بموجبه التطبيع العربي الإسرائيلي في آخر محطة في المبادرة بعد أن تقدم إسرائيل ما عليها من استحقاقات للفلسطينيين.
إضافة إلى أن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وتصريحه برغبته في نقل السفارة الأميركية إلى القدس شكل تغيرًا مفصليًا في استراتيجية الصراع وفرض أمرًا واقعًا لا يمكن تجاهل تأثيره على مضمون المبادرة العربية للسلام والتي نصت على أن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وبذلك يشكل الاعتراف الأميركي إجهاضا للمبادرة وإسقاطا لمضمونها، في حين تناقلت وسائل إعلامية تقديم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للرئيس محمود عباس عرضًا مضمونه أن تكون بلدة أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلًا من القدس الشرقية.
وهذا يعني تنفيذًا معكوسًا للمبادرة العربية للسلام وقد يكون استدراجًا للأنظمة العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في معزل عن القضية الفلسطينية، في حين يتم حشر القيادة الفلسطينية في الزاوية والتفرد بها وعدم إعطائها أي شيء أو الوصول لأي حل سياسي معها، وليس من المستبعد في حال تم عقد اتفاقيات سلام وتطبيع علاقات بين أنظمة عربية وإسرائيل قبل الوصول لتسوية القضية الفلسطينية أن يبقى وضع السلطة الوطنية الفلسطينية على ما هو عليه ويقتصر دورها على التنسيق الأمني وتسيير الشؤون الحياتية للمواطنين دون أي تقدم حقيقي تجاه حل الصراع وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة، وبذلك تنتهي القضية الفلسطينية عند هذا الحد دون الحصول على أي حق من الحقوق الفلسطينية المشروعة.