10 ابريل 2019
ما لا يقتل الديمقراطية التركية يقوّيها
انكشفت سوأة النظم الديمقراطية الغربية المؤيدة للانقلاب في تركيا أخيراً، قبل أن يفشل، وتُداري ما تبقى من وجوهٍ أهلكها الخجل، تتراجع لتدين وتستنكر. حدث هذا كله في ساعاتٍ فقط، هي عمر الانقلاب والقضاء عليه معاً، فكان تكثيف الأحداث أقوى من أي احتمال. كما انكشف تأييد بعض الإعلامين العرب الموالين للنظم القمعية، وقنواتهم التابعة لدول بعينها، وأنهكها الإحباط إلى درجة أنّها بثّت تعابير مثل: "للأسف فشل الانقلاب"، ففضلاً عن أنّها مجرّد أمنياتٍ تحدّث بها العقل الباطن، بدلاً عن الواعي، فقد أثبتت بما لا يدع مجالاً لأيّ سياساتٍ تحريضيةٍ أخرى، أنّ ما لا يقتل الديمقراطية التركية يقوّيها.
لم تدرِ هذه الفضائيات أيّ موقفٍ تتخذ، فحين يغيب الضمير تتأرجح كثيراً. احتارت في الاختيار: هل تقف في صف دولتها الأم، أم في صف الدولة المضيفة التي يخدمها طاقمٌ يجيد البكاء أكثر من أهل العزاء. وفشلت هذه التغطيات غير المهنية في التفريق بين شخص رجب طيب أردوغان وبين ممارسته الديمقراطية ونظام حكمه الذي يمثله حزب العدالة والتنمية المنتخب من الشعب التركي الذي لم يدافع عن أردوغان الشخص، ولم يهتف باسمه، ولم يبجّله، وإنّما تصدّى للدفاع عن حقه في أن تكون له الحياة التي اختارها، مستقرةً كريمة، تكسبه الاحترام العالمي يوماً بعد يوم.
حكم أولئك على النظام الديمقراطي في شخص أردوغان، وإن كان لهم الحق في أن يوالوا من يوالون ويحبوا ويكرهوا من أرادوا من أشخاصٍ، فليس من العدل المناداة بالديمقراطية ومعاداتها في الوقت نفسه، لأنّها تمثلت في ثوب حاكمٍ أو رئيسٍ منتخب، ليس على مزاجهم.
هذا هو الشعب التركي، أغلبهم هم الأبطال الذين خرجوا لدحر الانقلاب، وكأنّهم على موعدٍ مع النصر، وثلّة من الخونة قاموا بالتنفيذ، وبدا عليهم الخور والضعف، ينساقون لمن قبضوا عليهم من المواطنين والشرطة التركية من دون أدنى مقاومةٍ، وكأنّهم أدركوا متأخراً حجم ما اقترفوه. ظهر على وجوه الانقلابيين حجم الصدمة، ليس بفشلهم فقط، ولكن أيضاً، بسبب استجابة الشعب لرسالة أردوغان الصوتية من جهاز الآيفون، وترك بيانهم اليتيم حتى من دون أن يتمعنوا في محتوياته المحسومة مسبقاً.
ولا يذكّر التاريخ القريب في المنطقة فقط. ولكن، يعلّم من أراد أن يعتبر، من دون أن يصل إلى الجحيم نفسه، ففي الوسع تحسّس حرارة النار وتوقّع أذاها، من دون الحاجة إلى الوصول إليها وتجربتها. وما حدث يعكس جليّاً قرار الشعب التركي مبكراً بعدم التواطؤ مع أي كيانٍ لإزالة أي حكومةٍ بواسطة السلاح، ومن على ظهر دبابة، كما يقطع الآمال الكسيحة في تكرار المحاولة لاحقاً، لأنّها ستكون بلا قاعدة جماهيرية.
كانت هزّةً عنيفة في تونس إلى ليبيا ومصر وسورية واليمن، كفيلةً بأن تقتلع الطغاة وأذنابهم. ولكن، ما زالت هذه الدول لا تحصد غير الخراب والدمار. وها هي هزّةٌ مؤقتة في تركيا، ثم طوفان تهمد بعده فوضى العابثين بالديمقراطية والحريات. هؤلاء العابثون مغيّبون الآن من هول الصدمة بما لم يتحسّبوا له، بأن انحازت المعارضة بشرف للتجربة الديمقراطية، ووقفت أيضاً ضد الانقلاب قوات الشرطة والمخابرات التركية، وعدد من وحدات الجيش والقوات الخاصة وقوات الدرك.
النجاة النجاة، ربما مسافات بمقياس الميل البحري، أو بمقياس عُمرٍ مقداره سنوات، منذ تفجّرت الأرض عن غثائها، وأفاضت ازدياداً في طغيان العسكر. أمر الله نوحاً أن يصنع سفينة ضخمة، يُدخل فيها من كل زوجين اثنين، لينسج الزمان حول رحلة نوح حقيقة النجاة الخالدة التي جرت، أخيراً، في انسياب نهر "البوسفور"، واستقرّت الحكمة الخالدة من الطوفان عند جبل الجوديّ، "وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (سورة هود).
أليس غريباً أن يظهر حطام سفينة نوح، قبل سنوات قليلة فقط في تركيا، على يد أفراد بعثة بريطانية. تلك السفينة التي أيدت حقيقتها الكتب المقدسة، وعلماء الجغرافيا والجيولوجيا، كما أكدوا أنّ الطوفان حادثة كونية، شملت أنحاء الأرض التي لم يكن فيها غير قوم نوحٍ آنذاك، وهي منطقة الشرق الأوسط الحالية. ونوحٌ، كما يروي التاريخ، كان الحفيد العاشر لآدم، وأنّه كان الأب الثاني للبشرية، بعد نجاته ومن معه من الطوفان العظيم الذي، وحسب المعتقدات الدينية والأساطير السومرية، أباد البشرية جميعاً، باستثناء الذين نجوا من الطوفان، لاستعمالهم سفينةً عملاقة، يقترب حجمها من "تايتانيك" الشهيرة.
تلك الحادثة، إن فاتتنا الفرصة، لنتفكّر بقصتها الأولى في القرآن الكريم، فبقيّتها المحسوسة الآن تدل على أنّ أحداثاً لا ينبغي قذفها خارج فقه الأزمنة. ليس مصادفةً أن تكون القصة كلها في منطقة الشرق الأوسط، مهبط الديانات التي زخرت بأفعال كثيرة، إرسال الرسل، رد فعل على استبداد قومٍ ظالمين. وليس غريباً أن نرى مناطق الصراع الملتهبة فى العالم تقع معظمها على خريطة الشرق الأوسط أيضاً، ليس بسبب نظرية المؤامرة، ولا البترول.
هذا هو الفرق بين الشعب التركي وشعوب ما بعد الربيع العربي الذين ما زالوا ينتظرون النجاة على سفينة نوح أخرى إلى آخر الزمان هذا. أثبتت المحاولة الانقلابية، ودرس الخلاص التركي المختصر المفيد، أنّ في وسع الشعوب الأخرى أن تنتظر بصبرٍ وأناةٍ ما طاب لها الانتظار. من مِن هذه الشعوب المغلوبة على أمرها يستطيع التشبث بأحلامه العفوية البسيطة المؤجلة، إلى حيث تقلّهم سفينة النجاة، وحتى يأتي ذلك الحين، في وسعنا الإعلان ملء السمع: لم ينجُ أحد لم يبقَ أحد.
لم تدرِ هذه الفضائيات أيّ موقفٍ تتخذ، فحين يغيب الضمير تتأرجح كثيراً. احتارت في الاختيار: هل تقف في صف دولتها الأم، أم في صف الدولة المضيفة التي يخدمها طاقمٌ يجيد البكاء أكثر من أهل العزاء. وفشلت هذه التغطيات غير المهنية في التفريق بين شخص رجب طيب أردوغان وبين ممارسته الديمقراطية ونظام حكمه الذي يمثله حزب العدالة والتنمية المنتخب من الشعب التركي الذي لم يدافع عن أردوغان الشخص، ولم يهتف باسمه، ولم يبجّله، وإنّما تصدّى للدفاع عن حقه في أن تكون له الحياة التي اختارها، مستقرةً كريمة، تكسبه الاحترام العالمي يوماً بعد يوم.
حكم أولئك على النظام الديمقراطي في شخص أردوغان، وإن كان لهم الحق في أن يوالوا من يوالون ويحبوا ويكرهوا من أرادوا من أشخاصٍ، فليس من العدل المناداة بالديمقراطية ومعاداتها في الوقت نفسه، لأنّها تمثلت في ثوب حاكمٍ أو رئيسٍ منتخب، ليس على مزاجهم.
هذا هو الشعب التركي، أغلبهم هم الأبطال الذين خرجوا لدحر الانقلاب، وكأنّهم على موعدٍ مع النصر، وثلّة من الخونة قاموا بالتنفيذ، وبدا عليهم الخور والضعف، ينساقون لمن قبضوا عليهم من المواطنين والشرطة التركية من دون أدنى مقاومةٍ، وكأنّهم أدركوا متأخراً حجم ما اقترفوه. ظهر على وجوه الانقلابيين حجم الصدمة، ليس بفشلهم فقط، ولكن أيضاً، بسبب استجابة الشعب لرسالة أردوغان الصوتية من جهاز الآيفون، وترك بيانهم اليتيم حتى من دون أن يتمعنوا في محتوياته المحسومة مسبقاً.
ولا يذكّر التاريخ القريب في المنطقة فقط. ولكن، يعلّم من أراد أن يعتبر، من دون أن يصل إلى الجحيم نفسه، ففي الوسع تحسّس حرارة النار وتوقّع أذاها، من دون الحاجة إلى الوصول إليها وتجربتها. وما حدث يعكس جليّاً قرار الشعب التركي مبكراً بعدم التواطؤ مع أي كيانٍ لإزالة أي حكومةٍ بواسطة السلاح، ومن على ظهر دبابة، كما يقطع الآمال الكسيحة في تكرار المحاولة لاحقاً، لأنّها ستكون بلا قاعدة جماهيرية.
كانت هزّةً عنيفة في تونس إلى ليبيا ومصر وسورية واليمن، كفيلةً بأن تقتلع الطغاة وأذنابهم. ولكن، ما زالت هذه الدول لا تحصد غير الخراب والدمار. وها هي هزّةٌ مؤقتة في تركيا، ثم طوفان تهمد بعده فوضى العابثين بالديمقراطية والحريات. هؤلاء العابثون مغيّبون الآن من هول الصدمة بما لم يتحسّبوا له، بأن انحازت المعارضة بشرف للتجربة الديمقراطية، ووقفت أيضاً ضد الانقلاب قوات الشرطة والمخابرات التركية، وعدد من وحدات الجيش والقوات الخاصة وقوات الدرك.
النجاة النجاة، ربما مسافات بمقياس الميل البحري، أو بمقياس عُمرٍ مقداره سنوات، منذ تفجّرت الأرض عن غثائها، وأفاضت ازدياداً في طغيان العسكر. أمر الله نوحاً أن يصنع سفينة ضخمة، يُدخل فيها من كل زوجين اثنين، لينسج الزمان حول رحلة نوح حقيقة النجاة الخالدة التي جرت، أخيراً، في انسياب نهر "البوسفور"، واستقرّت الحكمة الخالدة من الطوفان عند جبل الجوديّ، "وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (سورة هود).
أليس غريباً أن يظهر حطام سفينة نوح، قبل سنوات قليلة فقط في تركيا، على يد أفراد بعثة بريطانية. تلك السفينة التي أيدت حقيقتها الكتب المقدسة، وعلماء الجغرافيا والجيولوجيا، كما أكدوا أنّ الطوفان حادثة كونية، شملت أنحاء الأرض التي لم يكن فيها غير قوم نوحٍ آنذاك، وهي منطقة الشرق الأوسط الحالية. ونوحٌ، كما يروي التاريخ، كان الحفيد العاشر لآدم، وأنّه كان الأب الثاني للبشرية، بعد نجاته ومن معه من الطوفان العظيم الذي، وحسب المعتقدات الدينية والأساطير السومرية، أباد البشرية جميعاً، باستثناء الذين نجوا من الطوفان، لاستعمالهم سفينةً عملاقة، يقترب حجمها من "تايتانيك" الشهيرة.
تلك الحادثة، إن فاتتنا الفرصة، لنتفكّر بقصتها الأولى في القرآن الكريم، فبقيّتها المحسوسة الآن تدل على أنّ أحداثاً لا ينبغي قذفها خارج فقه الأزمنة. ليس مصادفةً أن تكون القصة كلها في منطقة الشرق الأوسط، مهبط الديانات التي زخرت بأفعال كثيرة، إرسال الرسل، رد فعل على استبداد قومٍ ظالمين. وليس غريباً أن نرى مناطق الصراع الملتهبة فى العالم تقع معظمها على خريطة الشرق الأوسط أيضاً، ليس بسبب نظرية المؤامرة، ولا البترول.
هذا هو الفرق بين الشعب التركي وشعوب ما بعد الربيع العربي الذين ما زالوا ينتظرون النجاة على سفينة نوح أخرى إلى آخر الزمان هذا. أثبتت المحاولة الانقلابية، ودرس الخلاص التركي المختصر المفيد، أنّ في وسع الشعوب الأخرى أن تنتظر بصبرٍ وأناةٍ ما طاب لها الانتظار. من مِن هذه الشعوب المغلوبة على أمرها يستطيع التشبث بأحلامه العفوية البسيطة المؤجلة، إلى حيث تقلّهم سفينة النجاة، وحتى يأتي ذلك الحين، في وسعنا الإعلان ملء السمع: لم ينجُ أحد لم يبقَ أحد.