ما لا يعرفه التاريخ

19 يونيو 2014

سعودي يطالع "تويتر" (فرانس برس)

+ الخط -

يقال إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن المؤرخين يعيد بعضهم بعضاً. ونحن، بدورنا، نعيد ترديد مقولاتهم وأفكارهم، فعادتنا الاعتماد على التاريخ، والمبالغة في أهميته، بينما عدد من الظواهر الكبرى، التي نعيشها، لم تكن موجودة في التاريخ، ولا تحتاج منا إلى أن نلتفت إلى الوراء، بل إلى تحديقٍ كثيرٍ في الواقع.
يتصارع الناس، اليوم، بعقول أمواتٍ تنظر في حكايات انتهت! العقول الطائفية، اليوم، عقول تاريخية، تصدر عن ذاكرةٍ مُثقلةٍ وتنتهي إليها! الناس، عيال الله، من يحبون أن يشتروا الهدايا لأطفالهم، ويطمعون في الارتياح في مساكنهم وأرزاقهم، قد لا يصيبهم التشظي والانقسام القاتل بسبب أوضاع حياتهم اليومية، لكن العودة إلى التاريخ تفعل. فكل جماعةٍ لديها ذاكرة انتقائية وحكاية مغلقة للتاريخ، وهذا ما يجعل "النخب"، من كل طرف وجماعة وطائفة، تؤجج القيمة في "رأس المال" التاريخي هذا، فهي تمتلك احتكار هذه السرديات، وتعزز دوماً الحاجة إليها، كي تبقى مسيّدة تدير دفة القيادة. أصبحنا لا نعرف هل الرغبة في "السلطة" هي التي استنطقت التاريخ بهذا الشكل، أم أن التاريخ هو الذي جعلنا نعرّف السلطة كما هي اليوم؟! أيهما سبب وأيهما نتيجة؟!
هناك مشكلتان مع التاريخ المستخدم لدينا اليوم: أنه تاريخ لا يعرف واقعنا، وأنه لا يعرف الماضي جيداً! قد تبدو المشكلة الثانية صادمةً نوعاً ما، فكيف لا يعرف التاريخ التاريخ؟ هذا واقعٌ نستطيع ملاحظته في الطريقة التي تم بها تدوين التاريخ في ثقافتنا. لقد كان تاريخ "أمم وملوك"، يؤرخ للناس عبر شخوص النخب، وعبر المعارك والأحداث الجسام، وهذا أغفل التاريخ الاجتماعي وطبائع الحياة العادية وتأثيرها على المجتمع، مع استثناءٍ بسيط لكتابات ابن خلدون والمقريزي التاريخية، التي اهتمت بالبعد الاجتماعي.
بالنسبة إلى العلة الأولى، نحن نعيش، اليوم، وسط ظواهر كبرى مؤثرة في حياتنا، ولا يعرفها التاريخ. وبحثاً عن مثال، سيتوقف المقال أمام ظاهرتين من أهم الظواهر، التي تشكل حياتنا اليوم في الخليج، ولم يكتبهما حبر التاريخ من قبل: الإنترنت، والطبيعة الريعية (النفطية) للدولة الخليجية.
بالنسبة إلى الإنترنت، فخليجنا "الإلكتروني" يكاد يشكل ظاهرة عالمية فيه، على الرغم من أنها ظاهرة معروفة ومؤثرة في العالم كله أيضا. هناك أرقام عالمية خليجية، فالسعوديون في "تويتر" حققوا النسبة الأعلى بين مستخدمي موقعه في العالم، نسبة إلى عدد السكان وعدد مستخدمي الإنترنت في البلاد (تقديرات مستخدميه في السعودية تتفاوت بين مليونين إلى أربعة ملايين، والرقم الأخير يعادل تقريباً نصف مستخدمي الإنترنت في البلاد). وموقع تويتر وصف السعودية بأنها البقعة الأسرع في العالم في نموه، ويمثل السعوديون 38% من مستخدمي "تويتر" في العالم العربي. كذلك السعوديون هم الأعلى مشاهدة لليوتيوب في العالم، بحسب ما ذكره تقرير "الإعلام الاجتماعي العربي" الصادر عن كلية دبي للإدارة الحكومية.


ويذكر نديم المنصوري، صاحب كتاب "سوسيولوجيا الإنترنت"، إحصائيات لافتة، منها أن قطر أكثر دولة في العالم في استخدام "فيسبوك" نسبة إلى عدد السكان (79%)، وتأتي الإمارات ثانياً بنسبة تصل إلى 77%. وهذا الحضور الخليجي الكثيف على مستوى الشبكات الاجتماعية، لا يتكئ على سبب واحد، كالحاجة الفعلية إلى توظيف الإنترنت! بل له أسباب جانبية، منها انتشار الهواتف الذكية. فالإمارات هي الأولى والسعودية هي الثالثة على مستوى العالم، بعد كوريا الجنوبية، (الثانية) في امتلاك الهواتف الذكية. وفي السعودية مثلا، ثلثا مشاهدات اليوتيوب تتم عبر الهواتف الذكية. وهذا الانتشار للهواتف جزء من الثقافة الاستهلاكية السائدة في الخليج، وليس بالضرورة حاجة عملية، فمنطق تبديل الجديد بالجديد لا يقول به سوى عقل استهلاكي.  
هنالك أيضا العمالة الأجنبية، التي تشكل أغلبية على ضفاف الخليج العربي، وهي محتاجة دوماً إلى أن تكون متصلة على الخط للتواصل مع بلدانها، وتعويض غربتها. عامل مهم آخر في حيوية الشبكات الاجتماعية وكثافتها خليجيا، يتمثل في توفر الوقت، فطبيعة الرخاء الاقتصادي الذي تعيشه هذه الدول، عمل، أيضاً، على توفير الوقت بجانب المال، ولا تحتاج الطاقات العاملة والشبابية من هذه البلدان إلى إنفاق الأوقات الطويلة في الوظيفة الثابتة، أو البحث عن مصادر دخلٍ، قد تستهلك منهم أوقات الليل والنهار.
وهذه الطبيعة الاقتصادية المؤثرة، تنقلنا إلى الظاهرة الثانية المهمة التي يناقشها هذا المقال، وهي ظاهرة الريع. والنظام الريعي يعني اعتماد الدول على عوائد وافرة، تأتيها من الاعتماد على الثروات الخام. في السابق، كان الريع يشير إلى الذهب، واليوم يدلل على الثروات المعدنية كالنفط. وفي دول الخليج الريعية، لا تلعب الأفكار، تاريخية، أو أيدولوجية، أو ثقافية، دوراً كبيراً في تشكيل حياتنا، مثلما يفعل الريع. كل شيء مرتبط به، بدءاً من أكبر الأمور، كأمر إدارة البلاد، وصولاً إلى الطريقة الشرائية للعامل البسيط.   
وللثقافة الريعية في الخليج خصائصها الجديدة، فهي لا تشبه الريع السائد والمعروف في الثمانينيات. أغلب الأطروحات تجمدت عند النظرية الريعية، التي سادت في الثمانينيات، لكن الباحث الأسترالي، ماثيو غراي، كتب حول "الريعية الحديثة" في الخليج، وكيف أنها تتملك خصائص معينة، من ذلك: أن الدولة غير ديمقراطية، لكنها تتجاوب مع احتياجات الشعب بطريقتها، وأنها تكون نشطة في التنمية، ومنفتحة على العولمة، وحاضرة في السياسة الخارجية، أي أن لدى الدولة، في هذا السياق، انفتاحاً اقتصاديّاً، بينما هي اجتماعياً وسياسياً مغلقة.
يُفسر الريع علاقات كثيرة متبادلة في المجتمع، سياسياً واجتماعياً، وهو من الظواهر المهمة للتحليل والبحث، حتى يصل الناس إلى فهم أكبر لواقعهم. وكذلك ظاهرة الإنترنت المؤثرة كثيراً في عالمنا اليوم، والتي تكون مؤثرة، حتى بين أفراد العائلة الصغيرة. فهمنا هذه الظاهرة محدود جداً، فنحن لا ننتبه ونراقب، بجانب صعوبة الأمر، فحتى علماء "الاجتماع الإلكتروني" يذكرون صعوبة تتبع هذه الظاهرة وفحصها، لتضخمها بسرعة، وتعدد تأثيراتها وتسارعها. إن هذه الظواهر تشكل حياتنا بأعمق مما يفعل التاريخ، وليتنا انتبهنا لها، نصف انتباهنا له.

 

 

 

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي